29-يوليو-2016

إسماعيل يبرير

راهن الجزائري إسماعيل يبرير في رواياته السابقة "باردة كأنثى" و"ملائكة لافران" و"وصية المعتوه"، على عمق اللغة في رصد ملامح المكان والإنسان الجزائريين، وفق معمار يطرح نفسه شريكًا للحكاية من حيث الأهمية. لافتًا الانتباه إلى أن الرواية ليست هي الحكاية فقط، بل كيف تُبنى وتُقدّم للقارئ أيضًا، وهو المعطى الذي يظهر من خلاله نضجُ الروائي وخبرته في الوصول بكل تجلياته، ذلك أن الحكايات "مرمية على قارعة الطريق"، إن لم نستطع الحصول عليها قراءةً أو سماعًا، فإننا نستطيع الحصول عليها معايشة.

أن نهدس حكاية لا يعني أن نعلّبها، بل أن نفتح فيها نوافذَ كثيرةً، تحمل المتلقي على أن يُتعب نفسَه في فهمها

غير أنّ ما انتبه إليه يبرير في مشروعه المفتوح هذا، وأنقذ مفردته وجملته ومتنه من البرودة السردية، هو أنه لم يتعاطَ مع كونه "مهندسًا روائيًا"، بعيدًا عن كونه سليلَ مناخاتٍ صوفيةٍ تنام وتصحو على التعلق بالسماء، بكل ما يترتب عن ذلك من تعالٍ عن التراب، ليس بوصفه منطلقَ ومآلَ الذات الإنسانية، بل بوصفه همومًا بسيطة وانحدارًا نحو هاوية الأسئلة الغريزية.

اقرأ/ي أيضًا: صباح سنهوري: ستغمر المحبة العالم

أن نهدس حكاية لا يعني أن نعلّبها، بل أن نفتح فيها نوافذَ كثيرةً، تحمل المتلقي على أن يُتعب نفسَه في فهمها/ هضمها، حتى يملك الحق في أن يصبح شريكًا فيها، فتكتمل "لذة النص لديه". من هنا فمتن يبرير يملك الاستعداد مسبقًا لأن يتخلى عن القارئ الكسول أو المؤطر أو المفخخ بالنظريات والأيديولوجيات والأحكام الجاهزة، ويراهن على قارئ يبحث عن ذاته في المتون المفتوحة على التأويل. يكتب في الصفحة رقم 392: "أخجل حين أخيّب عرس المتلقي".

كأن يبرير أدرك أخيرًا أن النص المنشور في الفضاء الجزائري يبقى في حكم المخطوط، بالنظر إلى افتقاره إلى منظومة نشر تحتفي ولا تختفي، فأصدر تجربته الروائية الجديدة "مولى الحيرة" خارج الجزائر عن "دار مسكلياني" ذات الانتشار العربي، وهي تجربة تتصل بما سبقها من روايات صاحبها بقدر ما تنفصل، لتضعنا أمام خيار سردي يتطور داخل المشروع الخاص، بغض النظر عن عدد العناوين، لا داخل عنوان واحد، وهو خيار صعب لأنه يتطلب صبر القارئ والكاتب معًا.

بطل "مولى الحيرة" بشير الديلي، ومعه كل الشخوص مثل مينا وفاتح ويحي وبايزيد، يشبه سؤالًا معلقا من عرقوبه في الفضاء، كلما همّ بالقبض على إجابة مقنعة، كلما واجهه الغموض من جديد في فهم إنسانه ومكانه، فيعود إلى وصية الشيخ الأبيض الرائي: "الحكاية يا الديلي معلّقة منذ البداية، لا يدرك إملاءاتها إلا بارع صهرته التجارب والمحن والأحلام، وتذوّق الفشل ورعى الأمل، ولم يهلك في صحرائها، ودون ذلك تصير الحكاية وحشًا يتسعُ فيبلعُ".

بالمقارنة مع رواياته الثلاث السابقة، عدّد الروائي في متنه الجديد الشخوص والأصوات وأكثر منها، وحتى لا تتداخل خارج ما يسمح به الفهم والسرد، فقد عمد إلى تقنية تستوعب هذا التعدد في الأصوات، بعيدًا عن منطق تحريك الدمى، بأن قسّم الرواية إلى طبقتين، بينهما نص يضيئ كثيرًا من سياقات الحكاية/ الحكايات، من غير أن يوجّه فضول القارئ، وهذا ما لعبته الفصول الثانوية المرافقة.   

نساء "مولى الحيرة" راعيات أبديات لخطوات التيه في "قفزاتهن المهولة نحو النضج"

شخصية أخرى نافست في الحضور وتحويل انتباه القارئ إليها، حتى أنه يبحث عنها إذا افتقدها في بعض مفاصل المتن، هي "حي القرابة"/ مدينة الجلفة القديمة، الفضاء المكاني الرئيسي في الرواية، والمعلّق بأسئلة التراب والسماء، في مقاومته اليومية لأشكال المسخ المختلفة، فتصبح تلك المقاومة/ الذاكرة هي مقاومة وذاكرة الإنسان نفسه. وقد قاد الوعي الحداثي للنص هذه المقاومة إلى أن تكون من أجل ذاكرة جديدة مفتوحة على أحلام جديدة، لا من أجل العودة المرضية إلى الوراء. هكذا حظيت منطقة الجلفة بثلاثة روائيين جدد أدخلوها إلى النص، هم إسماعيل وميلود يبرير وعبد الوهاب عيساوي.

اقرأ/ي أيضًا: الأدب الأفريقي ومسألة اللغة

ليست الحكاية في "حي القرابة" ما عاشه شخوص المتن، بل ما حلموا به، ذلك أن ما يُعاش لا يرقى إلى مقام السرد إلا إذا كان مكابدة، وقد كان المتن ثريًا بالأحلام/ المكابدات، بمفهوميها الصوفي العرفاني والواقعي، وهو ما حدّد طبيعة اللغة المستعملة، في تموقعها بين الشعريِّ والسرديِّ والوصف والاستكناه، حتى أن كثيرًا من الأشياء تأنسن وأصبح ذا روحٍ ومشاعرَ وهمومٍ وأحلام: القهوة/ الخيمة/ الماء/ السيجارة "ظلّ مدني يعتذر وينظر إلى السجائر بأسًى، كأنه يعتقد أنها ذات أرواح".

نساء "مولى الحيرة" راعيات أبديات لخطوات التيه في "قفزاتهن المهولة نحو النضج"، جميلات ومتقدات، لكنهن مبرمجات دومًا على البحث عن أفق أرحب لا يغلّفه الخوف، التالية والعارفة والخونية وضياء ورحمة وفتيحة، حيث تنتفي الحدود بين الأنثى والأسطورة، ويجد القارئ نفسه في مواجهة هذا السؤال: هل هو قدر المرأة الجزائرية؟

هذا القدر/ الواقع يتقاسمنه في جزائر بات الكائن فيها يفقد معناه ويحنّ إلى بدايته، يقدّس الوجبات البدائية ويقرف من الأطباق الحديثة، يطربه الدفّ ويشنجه البيانو، يُمضي وقتًا طويلًا في تأمّل قدراته الجنسية، ولا يملك وقتًا للحب ولا للمعرفة. إنه وحش الفراغ الذي وقع فيه الإنسان والمكان/ حي القرابة، وهو ما دفع بشير الديلي إلى تلخيص الوضع: "لعله إفلاسنا نحن الذين وقفنا في اليسار، ثم نسينا أن نقف أصلًا، وبسرعة البرق صرنا غير معنيين بالوطن ولا بالحياة، ونريد امتلاك مصائرنا رغم ذلك".

اقرأ/ي أيضًا:

أسواق الكتب القديمة.. حياة في مكان آخر

المركز العربي يقارب الذكرى المئوية للحرب العالمية