18-يوليو-2018

مولود بن زادي (فيسبوك)

أتحفنا الأديب والمترجم والناقد الجزائري، المقيم في لندن، مولود بن زادي (1968)، بمولودٍ روائيٍّ عنونه "ما وراء الأفق الأزرق" (دار النخبة، 2017). رواية سيرية تَدُجُّ على ضفاف نهر التايمز بمدينة لندن، والتي قلَّما تمُسك سماؤها عن سكب أمطارها الغزيرة وإسدال ضبابها الكثيف.

"ما وراء الأفق الأزرق" رواية تشدُو بأوتار حنين الأوطان وتعبقُ بالإنسانية وتحملُ هموم غرباء الديار وهواجسهم الكثيرة

تجسُ هذه الرواية الثانية (الرواية الأولى: "رياح القدر"، 2014) للأديب المغترب بن زادي نبض سجال الكَاتب العربي لفرض اسمه الأدبي في سماء عربية تستعدي الإبداع وتسخر من غيث الكلمات الجميلة. رواية تشدُو بأوتار حنين الأوطان وتعبقُ بالإنسانية وتحملُ هموم غرباء الديار وهواجسهم الكثيرة، تحت طائلة أشباح الماضي المرير وازدراء بني جلدتهم لمساهماتهم الفكرية. شخصيتان محوريتان، رجل وامرأة، أثثتَا متن الرواية: الكَاتب الجزائري خالد (بن زادي نفسه؟) واللبنانية وفاء هدى سلطان، مُدرِّسة أدب عربي في جامعة "وست منستر" بلندن.

اقرأ/ي أيضًا: لؤي حمزة عبّاس.. في المراهنة على اليأس

ترِدُ خالد رسالة من وفاء أبدت من خلالها اهتمامها بأعماله الروائية. فتبدأ رحلة تبادل رسائل مفعمة بالرومانسية واللطف والتأدب. جمعهما شغف الأدب والمعرفة. شعرتْ أنها تعرفه منذ أمد بعيد. إحساس غريب ولغز محير: فكلما تدفقت الكلمات السلسة، اتَّقد شوق لقاء الآخر. انبهرت وفاء بأسلوب كتابات خالد، وبفضله أحبت مجددا أعمال توفيق الحكيم، والعقاد، والمنفلوطي، ومي زيادة، وميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران. يطلب منها خالد مراجعة روايته بعدما ملَّ من وعود زائفة وردته من الأصدقاء والذين تحججوا بضيق الوقت، وتراكم العمل، وكثرة الانشغالات. يتأسفان كذلك عن تدني مستويات القراءة في الأوطان العربية (يقرأ العربي ربع صفحة سنويا مقابل سبعة كتب للقارئ الغربي!)، وأحزنهما عزوف العرب عن ارتشاف عصارة الأدب العالمي والعربي على حد سواء، عدا إسهابهم في التهام كتب الدين والطبخ وتفسير الأحلام والنكاح.

حارب المؤلف خالد وأبى رمي القلم بسهولة في النهر اللندني العَرِبِ: "أبحرَ أسطولي الرابض في المحيط الأطلسي إلى المتوسط، فحلقت منه المقاتلات أسرابا وانطلقت منه صواريخ تباعا، فأصابت أهدافها إصابات دقيقة بالغة. وإني قادر على ضرب مواقع خصومي جوا وبحرا، واجتياحها برا، وقهر أي جيش، وتدمير كل معقل من معقل من معاقل الإقصاء والتهميش".

كما عكف خالد على إنهاء قاموس المترادفات العربية بتفانٍ وإصرار كبيرين، وكيف لا واللغة العربية تزخر باثني عشر مليون كلمة! المعجم الذي استنزف قواه ووقته، إذ تجد غرفته تعج بالكتب والمجلات. من أجل ذلك سلا بال خالد عن الآنسة وفاء، المدمنة على تناول الشكولاتة. كان خالد ينوي استشارة وفاء في رواية له قيد الكتابة. اشترط عليها عدم الخوض قي حياته الشخصية والأسرية ثم اقترح على وفاء لقاءً في حديقة "غرينتش" القريبة من بيته. طلبت منه إحضار روايات عربية مفتقدة في المملكة المتحدة، فاغتبط خالد كثيرا قبل الموعد الخَضِر، فاقتنى تذكرتين لحضور حفل موسيقي إن أمطرت السماء اللندنية. لكن وفاء تعذرت عن المجيء في آخر لحظة فاصفرَّ الزرع وشعر خالد بالإحباط الشديد الذي قذفه إلى ماضٍ ذي شجن كان قد رماه بلا يقطين إلى عُدوة الجزر البريطانية. "العيش ملكا معززا في بلاد غريبة لخير وأهون من العيش عبدا مستضعفا في بلاد حبيبة... حبستني الأقدار في هذا السجن، ولم يعد لي خيار. أمسيت اليوم مرتبطا بهذا السجن الكبير بجسدي ارتباط بالأوطان بوجداني... سجن في حجم وطن." عقب رسالة وفاء الثانية والتي دغدغت مشاعره، تقبَّل خالد اعتذارها واتفقا على موعد ثانٍ داخل مقهى إيطالي اسمه "كوستا" بمركز "ستراتفورد" التجاري في الجهة الشمالية لنهر التايمز أين تسكن وفاء. وهما يرتشفان فنجانَيْ كابتشينو، مبتسمين ومعجبين بسحر أول لقاء، تجاذبَا أطراف الحديث عن الواقع الباهت للرواية العربية، ثم تكاتفَا في إيجاد صرح عمراني روائي جديد غير نمطي لم يصل إليه أحد من قبل، بعيدا عن التقليد الأعمى واجترار ما كُتب من طرف الروائيين الآخرين. هل سينجحان في تشييد ذلك البنيان الروائي بلا عراقيل؟ أهداها خالد كتاب "مدرسة المغفلين" لتوفيق الحكيم، وفي الليلة راقت لها قصة "ليلة الزفاف".

يتساءل بن زادي عن جدوى اللقاء إِنْ توَّجه الفراق الأليم؟ وما فائدة فرح يليه قرح وعذاب؟ "ما وراء الأفق الأزرق" نص يعري زيف العلاقات البشرية الذين يتقنون ارتداء أقنعة الحب والمودة والإخلاص، ويكثرون من مساحيق الابتسامات للآخر. مجتمعات عربية مازالت تحتكم للمظاهر الخداعة، وسرد لنا الروائي المهجري بن زادي قصة الفتاة الجزائرية "رزيقة" التي صادفها خالد بحديقة "ريتشموند"، والتي وهبها الخالقُ وجهًا مشوهًا، فاتَّخذ أقرب الناس إليها صفتها تلك مطيَّة لإيذائها والتهكم عليها صباحَ مساءَ، فألصقوا بها اسم "المزعوقة" (أي "المنبوذة"). وهذه معجبة مزيفة تظاهرت بقراءة رواية خالد مرتين، فأرسلت له صورتها في لباس النوم الشفاف كأنها عروس ليلة الدخلة، وعندما طلب منها رأيها في عمله السردي حذفته من قائمة الأصدقاء وأفلت من الشبكة الافتراضية بلا رجعة! إيحاء لهشاشة العلاقات البشرية وزيفها.

يتساءل بن زادي عن جدوى اللقاء إِنْ توَّجه الفراق الأليم؟ وما فائدة فرح يليه قرح وعذاب؟

في مشهد سردي آخر، خالف خالد صديقته اللبنانية وفاء حيال مفهومَيْ الإنسانية والحرية، إثر هجمات "شارلي إبدو"، إذ استغربت وفاء تجاهلَ خالد حملات التعاطف مع الجريدة الساخرة. دافع خالد عن مبدأَيْ المساواة والعدل بدون تفاضل أو انتقاء لتجسيد الإنسانية الحقَّة، المجردة من ثوب الذاتية والرغبات والتمييز بين البشر لأسباب عرقية أو دينية أو لغوية. حسَب تعبير خالد "الإنسانية والأنانية هما خطان لا يلتقيان أبدا."

اقرأ/ي أيضًا: وليد السابق: تبدأ الغربة من استيلاء الذاكرة البعيدة على الحاضر

شخصية مجهرية ثالثة ظهرت وقحة وجاحدة إلى أبعد آفاق "ما وراء الأفق الأزرق" (في الفصل الحادي عشر)، ألا هو عبد الله الشقيّ، الذي نكر جميل خالد الذي موَّل صفحته الأدبية على مواقع التواصل الاجتماعي وأخرجها من نفق الرداءة وفقر رُوادها فانتشرت بشكل رهيب. تمر الأسابيع فينقلب المتطفل الشقيّ على خالد، فراح يستل قلمًا افتراضيًّا ليطعن ظَهْرَ مَنْ أحسنَ إليه آنفًا! الشقيُّ الذي عجز عن كتابة جمل مفيدة وسليمة في صفحته التي يديرها كثورٍ أعورَ في ليل دامس، والذي لم يُعرف عنه أي سلعة أدبية خلا انتحال صفة مدير أكبر صفحة روائية جزائرية. اتَّخذ الشقيّ من السخرية والإهانة العلنية إزاء المتخلق خالد مادةً دسمةً وسامةً لتقزيم روائيٍّ طيب القلب أغدقه سابقا بالإحسان والمساعدة.

كان هذا حقًا تجسيدًا لقصة جزاء سنمار! شقَّ خالد دربًا أدبيًا في غاب موحش، عرَّضه للافتراس والاحتقار من أقرب الأصدقاء إليه، لكن هذا البلاء لم يثنِ من إرادته ولو أن سلاح القَدر أقوى من كل العزائم. غذى الحسد ضغينة عبد الله الشقيّ، فاستباح لحم خالد وتوغر صدره وَرَمَ حقدٍ لا مبرر له في كل الأديان والأعراف. والشتائم تتوالى من الشقيّ الذي سعى حانقًا لاحتكار سماء الأدب، فاهتدى خالد إلى فتح صفحة أدبية مماثلة تحمل نفس الاسم لاسترداد حقه المغتصب. التف رواد الأدب حول خالد وآزروه وشجعوه على مواصلة مشواره.   

[[{"fid":"101482","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"مولود بن زادي","field_file_image_title_text[und][0][value]":"مولود بن زادي"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"مولود بن زادي","field_file_image_title_text[und][0][value]":"مولود بن زادي"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"مولود بن زادي","title":"مولود بن زادي","height":294,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

وعالجت الرواية وبامتياز ظاهرة التقليل من شأن بعض الكُتاب لأسباب لا تمت للإبداع بصِلة، بل هي مجرد افتراءات وتصفية حسابات شخصية بطرق دنيئة ومضحكة في آنٍ واحدٍ. الاستخفاف بالآخر واستفحال الهويات المزورة على مواقع التواصل الاجتماعي نخرت بالصداقات العربية وأرجعتها إلى صراعات عصور الجاهلية الأولى. كما شرحت الرواية انسلاخ قيم الحب الذي أصبح مصطنعا وأصابه الصدأ، في زمن طغت فيه الماديات على الأخلاق.  

على خطا ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، انتفض بن زادي على شرذمة من المثقفين يدَّعون زورًا أن اللغة عربية عاجزة عن سرد موضوع الجنس

جرَّنا اللغوي بن زادي إلى علاقة المجتمع العربي بلغته العربية، والتي اتهمها الجاهلون بالتطرف والتعصب ومناشدة الإرهاب، مع أن اللغة بريئة من أفكار الإنسان وأفعاله الشنيعة. وعلى خطا ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، انتفض الأديب المهجري بن زادي على شرذمة من المثقفين يدَّعون زورًا أن اللغة عربية عاجزة عن سرد موضوع الجنس، فأعطى مثاليْ "الروض العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ النفزاوي و كتاب "ألف ليلة وليلة".

اقرأ/ي أيضًا: أمبرتو إيكو.. تاريخ القبح أم تأريخ لسلطة الغرائبية؟

في النهاية تكتشف وفاء الحالة الأسرية لخالد المتزوج، فتنفد جرَّة صبرها من ولوج قلب الرجل الذي أحبته منذ أول نظرة ولمسة. تبخر حلم بلوغ "ما وراء الأفق الأزرق" رفقة وفاء، فكان الفراقُ عيدًا مُوجعًا لخالد: "سأرحل إلى ما وراء الأفق الأزرق حيث أنتمي وأشعر بالحرية والأمان والسلام. سأرحل للقاء تلك الأرواح الوديعة الآمنة الأمينة التي لا تقدس الذات وإنما الإنسانية، ولا تعرف المكر أو الغدر، ولا ينتابها طيف الأنانية والحسد والحقد." قبل انسحابها من حياته، أهدت خالد صورتها المتبرجة. كانت صبوحة وجميلة، إذ لها جينات أوروبية، فأبوها من أب لبناني وأم هولندية وأما والدتها فهي إسبانية.

كتب خالد ما اختلج في صدره:

 يا من أهملتني وأنكرت وجودي

ورميتني بطلب الشهرة والخلود

من بعد سهادي وعنائي وجهودي

لخدمة اللغة والأدب بغير حدود

اعلمْ أن كل تهميش أو جهود

لا يعني مطلقا أني غير موجود

اعلمْ أن إرادتي صماء كالجلمود

وأن إبداعي فضاء لا يقيَّد بقيود".

أول مرة يقرأ كاتبُ المقال روايةً ثرية وخصبة لغويًا. ارتقى مولود بن زادي بنصه السردي إلى برج لا يبلغه إلا المتمرسون أدبيًا. "ما وراء الأفق الأزرق" جديرة بأن تُدَرس في المدارس والجامعات العربية لاستعادة إرث لغة الضاد التي عبث بها أهلها دهرًا، حتى أضحى اللسان العربي أعجميًا في شوارعنا وبيوتنا وحياتنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مها حسن: لا أكتب سيرتي الشخصية في رواياتي

أصل الإنسان ومصيره بعيون ماسونيَّة