19-مارس-2023
الأفق الأعلى-فاطمة عبد الحميد

رواية الأفق الأعلى

الموتُ مقدّمٌ على الحياة في الأصل، خُلِق للبلاء، باعثٌ على التفكير في تدبيب الحياة في المادة الميتة عدا الإنسان الخالد في الجحيم أو النّعيم. فإذا مات للراعي قطيعًا من الغنم – مثلًا- سيجتهد في تعويضه وخلافته بشراء شيّاه ولُود لاستدراك الضائعات، وإذا مات المصباح في الحجرة فسيضطرُ صاحب البيت إلى شراء مصباح جديد لإعادة بثّ النور.. ولذلك سنظل نقرأ، إلى أن نموت، قوله تعالى "هو الّذي خلق الموت والحياة" ولم نقرأ أبدًا "هو الّذي خلق الحياة والموت".

ولعلّ الروائية فاطمة عبد الحميد تنبّهت للحكمة الإلهية، فسرّع راويها بموت نبيلة في سرديتها "الأفق الأعلى" الصادرة عن دار مسكيلياني، في طبعتها الأولى 2022، ليجد الشخوص أنفسهم أمام تحدّيات لم تكن في الحسبان، إذ لكلّ غاية لم تكتمل كما كان متوقعًا لها أنْ تكتمل، وأنّى لها أنْ تكتمل والرواية في حالة بحثٍ دائم عن نفسها. ماتت نبيلة ليتقدم زوجها سليمان بطلًا في الأفق، لِمَ الأفق إذًا، هل نحنُ أمام الاطلاع على معرفة عالية أم أمام قصّة محكيّة في السماء؟

في رواية "الأفق الأعلى"، يجد الشخوص أنفسهم أمام تحدّيات لم تكن في الحسبان، فلا غاية من الغايات تكتمل كما كان متوقعًا لها

 

ينضاف إلى جزء العنوان كلمة الأعلى، ممّا يوحي بالرّفعة والشموخ، والحق أنّ العنوان مقتبسٌ من سورة النّجم، وللمفسرين أقوالهم المختلفة والصحيحة، ومنها مطلع الشمس.. فما أن نصافح المتن حتى نقرأ المفارقة بين الثمرة التّي تسقط من الشجرة لكنّها تظلّ منتمية إلى النوع نفسه والصفات عينها، وبين البشر الّذين هم في انمحاق مستمر، حيث يبدو ذلك جليًّا لعلاقات الآباء بالأبناء، إلى هنا؛ القضيّة منطرحة ببلاغة، عرفناها اجتماعية من الصفحات الأولى.

 ثم سرعان ما نغوص في يمّ السرد بفقرة تجعلنا مشتبكين مع المكان؛ بمعنى حضورنا الذهني وتأهبنا للتلقي. إنّ بناء المكان امتداد لبناء الإنسان، فهو يعكسُ الثقافة المقدّرة فيه، إسقاطًا لمكان شبيه في مخيّلة القارئ، كقطعة الغيار التي تشغّل محرّكًا ما وهي من غير جنس مكوناته الأصلية. اتضح المكان وصار جاهزًا بأشيائه من الخارج والداخل، نرى ذلك حينما يقول الراوي: "ثمّة نظرة صبور ترصد بيت سليمان من علٍ، من مسافة أعلى من أسطح المنازل، وأقلّ من ارتفاع الغمام، وتظلّ تقترب، ثمّ تدخل غُرف منزله الواحدة تلو الأخرى، دون الحاجة إلى المرور عبر باب أو شبّاك، حتّى تصل إلى غرفة نومه".

ألا ترى أنّ النفس تنفلتُ بتغليب الرغبة في اللذة، اللذة الممنوعة الجالبة للألم، عندما لا يتحكّم العقل، ثم يبزغ سيّاط الضمير لائمًا، إنّها أمراض الهوى التي كلّما طالتْ ممارستها كلّما صعُب التخلّص منها. في أفق العمارة لم يكن هناك أفقَ حياة؛ بمعنى حياة الرضى، نِزاعات نفسية مزمنة سبّبها الفراغ، وقد هيأ لها الماضي الطمع في المستقبل.

تصبح أمّي أخطر الأشياء المهددة لحياتي عندما تظلّ لاصقة في أنفاسي، أمّي تحبّني بشدّة ولن أشكّ في ذلك، تحبنّي بقلبها الحنون، افعلْ ولا تفعلْ، فهي إمّا مراقِبة عن جهل تودُّ ألا يُستأثر بالقرار للعروس التيّ جيء بها لتُمارس دور الإنجاب حتّى يمتد نسل العائلة، وإمّا مراقِبة عن غيرةٍ ممزوجة بالنرجسية ستؤدي حتمًا إلى الزعزعة، ثمَّ يبزغ العتاب سيدًا في رأس الحاكم والمحكوم.

ما حاجة امرأة لزوج يدرك أنّه لا يستطيع أداء واجبه كزوج، ومع ذلك يجد نفسه فجأة كدميّة يُتلاعب بها فوق السرير - من غير جدوى- تارة، ويُبعث بها إلى الخارج لشراء ما يلزم البيت من أغراض تارة أخرى، هل كان يدرك بطل الأفق أنّه مريض ولم يبحْ لأقرب النّاس إليه، فلعلّ العلاج يكون مُحتملًا، أم أنّه خشي الوشوشة فدُفعَ إلى الزواج متشجعًا، ثمّ أفاقَ- بعد حين- على عالَمٍ غامض؟

ما الذّي يجعل المرء يخطأ بالذاكرة، بل حارسًا لأخطائه حذرًا من ظهورها، فإن هو استطاع طردها من جمجمته بالكفاح فيما يملك، لربّما أُتيحت له فرصة التغيير، لكنّه يحبذ الاستكانة لوسواسه، يبني أفكارًا في الصباح ثمّ يهدمها في المساء، تلك هي الهزيمة متلبسة ثوب النجاح.

يمكن القول إنّ الموتَ ساردٌ متربص في رواية "الأفق الأعلى"، إنّه بطل الأفق ينظر إلينا من الأعلى، سيفنى الموت عندما تستعيد الحياة حياتها

 

ومن النّاس الحاذق الذّي يعيش لنفسه ومن النّاس الأحمق الذّي يعيش للنّاس، لقد نضجت ثمرة الأفق في منتصف الرواية إذ قال الراوي في مشهد بديع هيأ به منعطف الأحداث: "استلقت سمر على سريرها، فبدت كأنّها إبرة في بوصلة. كانت تتأرجح بين جهتين: جهة سليمان حيث يوجد الزمان المتبقي لها من حياتها، وجهة فاضل، حيث يكمن الماضي الّذي تعجز عن التخلّص منه إلّا بالطلاق".

لقد اشتغلتْ فاطمة عبد الحميد على ذاكرات الحقيقي والمتخيل، ذاكرة الراوي العليم، لضرورة النسج وذاكرة الأبطال الذين يقف خلفهم؛ ليُشهدنا على ما يفعلون. فها هو سليمان بعد مضي حقبة من عمره، بل من عمر الرواية، يحن إلى الماضي عندما كان في سن الثالثة عشر، تداعتْ عليه طفولته المسلوبة فقرر أن يستدرك شيئًا منها في ملعب الكرّة "ذهني يريد اللعب، لكن جسدي لا يستجيب".

وثمّة شخوص يجبُ التعرف عليهم في الرواية، لندرك حينئذٍ، أنَّ الأفقَ تطلّعٌ إلى الفناء، حيث يتخلّص البشر من ألوان المعاناة.

ولأنَّ الرواية خاضت فلسفة العيش بالانتصار على الأحزان يمكن القول إنّ الموتَ ساردٌ متربص، إنّه بطل الأفق ينظر إلينا من الأعلى، سيفنى الموت عندما تستعيد الحياة حياتها.