15-مارس-2018

تصميم بنان شكارنة

تأثّرت الفلسفة العربية الإسلامية بفلسفة الإغريق، ونسج الفلاسفة على منوال أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. في هذه السلسلة من المقالات، سوف نتناول الكنديّ والفارابي وابن سينا وابن رشد، والغزالي وابن خلدون، حيث نخصّص حلقة خاصّة لكلّ منهم، نقف فيها على حياته وأفكاره وأعماله، ملاحقين مرحلة الإنتاج الفلسفيّ التي بدأت في القرن التاسع للميلاد، التي تلت حقبة طويلة تميّزت بالنّقل. ونختتم اليوم الحديث عن الفارابي. 

 


الفارابي وطريق السعادة

ألّف أبو نصر الفارابي في شيخوخته كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة"، وهو كتاب في الاجتماع الإنساني ووصف شروطه وأنواعه، كما يبحث في الكثير من المسائل الإلهية، لأنّ الفارابي يرى السياسة صادرة عن السبب الأول للموجودات، وعلاقة الأكوان ببعضها البعض.

يضم "آراء أهل المدينة الفاضلة" آراءه في السياسة، ويبدو فيها متأثرًا بـ"جمهورية أفلاطون" إذ يعتبر أن الممسك بتقاليد الدولة يجب أن يكون رئيسًا فيلسوفًا، وهو يخلع عليه جميع الفضائل التي تتوفر في الأنبياء وورثتهم.

رأى الفارابي، كما أفلاطون، أنّ المدينة الفاضلة أشبه بالجسم السليم، فكما تحفظ قواعد الصحة قوة البدن، كذلك فإن الأعمال الفاضلة تورث سجية العدالة. واعتبر أن البدن يخدم بعضه بعضًا تمامًا كما يفعل أعضاء هذه المدينة، بفارق أن أفعال البدن طبيعية فيما أعمال الأفراد إرادية.

وضع الفارابي قائمة بالمدن المضادة للمدينة الفاضلة على النحو الآتي:

  1. المدينة الجاهلة: هي المدينة التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم، إن أُرشدوا إليها لم يعرفوها وإن ذُكرت لهم لم يعتقدوها. تنقسم المدينة الجاهلة إلى عدة أقسام هي: المدينة الضرورية، وهي المدينة البدالة، وهي مدينة الكرامة، ومدينة الخسة والشقوة، ومدينة التغلب.
  2. المدينة الفاسقة: هي المدينة التي يعلم أهلها ما يعلمه أهل المدينة الفاضلة من أسباب السعادة ويعرفون الله والعقل الفعال ويعتقدون ذلك كله، ولكن تكون أفعالهم أفعال المدن الجاهلة، فهم يقولون بما يقوله أهل المدن الفاضلة، ولكن من غير أن يعملوا به.
  3. المدينة المتبدلة: وهي المدينة التي كانت آراء أهلها وأفعالها في القديم مطابقة لآراء المدينة الفاضلة وأفعالها، إلا أنها تبدلت فدخلت فيها آراء فاسدة واستحالت أفعالها أفعالًا مذمومةً.
  4. المدينة الضالة: وهي التي تعتقد في الله وفي العقل الفعال آراء فاسدة، ويكون رئيسها الأول ضالاً، يظن أنه يوحى إليه وهو بعيد عن الوحي، فيخادع الناس ويغريهم بأقواله وأفعاله.

ترتبط السياسة في فلسفة الفارابي بالأخلاق بالدرجة الأولى، هذا ما نقع عليه في مؤلفات أخرى مثل "تحصيل السعادة" و"السياسة المدنية"، ولهذا يعدّ أشدّ الفلاسفة المسلمين عناية بالسياسة، "رغم أنه لم يشارك فيها أدنى مشاركة"، كما يقول عبد الرحمن بدوي في "موسوعة الفلسفة".

المهمة الرئيسية للعلم المدني، أو السياسة، هي البحث عن الأفعال الحسنة والفضائل، التي تمكّن الإنسان من الاقتراب من الكمال، بخلاف الأفعال القبيحة الـتي تعيق ذلك. هكذا ستكون السياسة، بالنسبة للمعلم الثاني، هي علم الأشياء التي يتوصل بفضلها سكّان المدن إلى السعادة.


مختارات من كتاب "السياسة المدنية"

ونقول أَيْضا إِن أَنْفَع الْأُمُور الَّتِي يسلكها الْمَرْء فِي استجلاب علم السياسة وَغَيره من الْعُلُوم أَن يتَأَمَّل أَحْوَال النَّاس وأعمالهم ومتصرفاتهم، مَا شَهِدَهَا وَمَا غَابَ عَنْهَا، مِمَّا سَمعه وتناهى إِلَيْهِ مِنْهَا، وَأَن يمعن النّظر فِيهَا ويميز بَين محاسنها ومساوئها، وَبَين النافع والضار لَهُم مِنْهَا، ثمَّ ليجتهد فِي التَّمَسُّك بمحاسنها لينال من مَنَافِعهَا مثل مَا نالوا، وَفِي التَّحَرُّز والاجتناب من مساوئها ليأمن من مضارها، وَيسلم من غوائلها مثل مَا سلمُوا.

*

والأعداء أَيْضا صنفان، أَحدهمَا ذَوُو الأحقاد والضغائن، وَيَنْبَغِي للمرء أَن يحترس مِنْهُم كل الاحتراس، ويستطلع عَن أَحْوَالهم بِكُل مَا أمكنه، وَمهما اطلع مِنْهُم على مكر أَو خديعة أَو تَدْبِير يدبرونه فليقابلهم بِمَا يُنَاقض تدبيرهم، وَيكثر الشكاية مِنْهُم إِلَى الرؤساء وإفناء النَّاس ليعرفوا بعداوتهم، حَتَّى لَا ينجح فِي أحد قَوْلهم عَلَيْهِ وليصيروا متهمين عِنْد النَّاس فِي أَقْوَالهم وأفعالهم بِمَا ظهر عِنْدهم من معاداتهم إِيَّاه.

وكل من آيس المرء من صلاحه وتيقن سوء طبعه وَتمكن الضغينة من قلبه، فلينتهز الفرصة فِي إهلاكه، وَمهما وجدهَا فلينتهزها وَلَا يتغافل عَمَّا يُمكنهُ إِذا يتقن بقدرته على إهلاكه.

وَأَن علم إِنَّه رُبمَا لا يقدر على إتمام أمره والنجاة مِنْهُ فَلَا يسْرع فِي شَيْء مِنْهُ لِئلَّا يجد الْعَدو عَلَيْك مِمَّا يتعلَّق به عند النّاس ممّا يمهد لنفسه عندهم في عداوته عذرًا.

والصنف الآخر من الْأَعْدَاء الحساد وَيَنْبَغِي للمرء أَن يظْهر لَهُم ملا يغيظهم ويؤذيهم بِأَن يلقى إِلَيْهِم ذكر النعم الَّتِي يخْتَص بهَا لتذوب لَهَا نُفُوسهم ويحترز مَعَ ذَلِك من دسيستهم ويحتال لظُهُور حسدهم فِيهِ وَفِي غَيره من النَّاس ليعرفوا بذلك.

*

وَمِنْهُم السُّفَهَاء فَيجب على الْمَرْء اسْتِعْمَال الْحلم مَعَهم وَأَن لَا يؤاتيهم وَلَا يقابلهم بِمَا هُوَ فِيهِ من السفاهة بل يتلقاهم أبدا بحلم رزين وَسُكُون بليغ ليعرفوا قلَّة مبالاته بِمَا هم فِيهِ وَلَا يؤذوه بعد ذَلِك مَتى تلقوهُ بالمشاتمة والسفه فَيجب إِن يتلقاهم بالمحقرة وَقلة الاكتراث.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ركن الورّاقين: في صحبة فلاسفة الإسلام (الكندي)

ركن الورّاقين: في صحبة فلاسفة الإسلام (الفارابي 1)‎