08-مارس-2018

تصميم بنان شكارنة

تأثّرت الفلسفة العربية الإسلامية بفلسفة الإغريق، ونسج الفلاسفة على منوال أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. في هذه السلسلة من المقالات، سوف نتناول الكنديّ والفارابي وابن سينا وابن رشد، والغزالي وابن خلدون، حيث نخصّص حلقة خاصّة لكلّ منهم، نقف فيها على حياته وأفكاره وأعماله، ملاحقين مرحلة الإنتاج الفلسفيّ التي بدأت في القرن التاسع للميلاد، التي تلت حقبة طويلة تميّزت بالنّقل.

نقف في هذه المقالات المتسلسلة عند الفارابي في مقالين متتاليين.


الفارابي مؤسس الفلسفة الإسلامية

"أبو النصر محمّد بن محمّد بن طرخان الفارابّي. ولد الفارابي في واسج في مقاطعة فاراب بتركستان من أبٍ يقال إنه كان قائدًا عسكريًا في بلاط السلامانيين. درس في بغداد أوّلًا على يد معلم مسيحي هو يوحنا بن حيلان، ودرس بعد ذلك المنطق والفلسفة والنحو والصّرف والعلوم والرياضيات والموسيقى. وارتحل إلى حلب في (335هـ - 941م)، واستقر في مجلس سيف الدولة. ثم قام بعدّة أسفارٍ وصولًا إلى القاهرة، ومات في دمشق في (330هـ - 950م) عن ثمانين عامًا".

هذا ما يعرّف به "معجم الفلاسفة" لجورج طرابيشي المعلّمَ الثاني، أمّا كتاب "تاريخ الفلسفة العربية" لجميل صليبا فيؤكد لنا أن الفارابي كان زاهدًا في الدنيا، ميّالًا إلى العزلة والتأمل: "روى القفطي أنَّ الفارابي كان يقيم بكنف سيف الدولة بزي أهل التصوّف، وقيل إنَّ سيف الدولة أجرى عليه نعمًا كثيرةً، فاقتصر على أربعة دراهم في النهار يسدّ به رمقه، وروى ابن خلكان أنَّ الفارابي كان، مدةَ مقامه في دمشق، لا يُرى غالبًا إلا عند مجتمع ماء، أو مشتبك رياض، يؤلّف كتبه هناك".

بذل الفارابي قصارى جهده للتوفيق بين أفلاطون وأرسطو، واعتبر أنّهما متفقان في الأصول، مختلفان في الفروع، لكي يثبت أن الفلسفة واحدة، لكنه في محاولته تلك باء بالفشل، فكان تارة أفلاطونيًا يجرّ إليه أرسطو، وأخرى أرسطوطاليسيًا يجر إليه أفلاطون، بحسب "تاريخ الفلسفة العربية" لحنا فاخوري وخليل الجرّ.

رأى الفارابي أنّ الله عقل وعاقل ومعقول، وهذه الأشياء الثلاثة فيه معنى واحد، وذات واحدة، وجوهر لا ينقسم. وكذلك في أنّه علم وعالم ومعلوم، وفي أنه حقّ، وفي أنه حياة، فهي كلها حياة ذات واحدة وجوهر واحد. وإذا كان الله تام الوجود وجب أن تكون معرفتنا به أتم معرفة، إلا أن كماله المطلق يجعل عقولنا عاجزة عن إدراكه.

كما قدّم الفارابي "نظرية الفيض" التي تقول بصدور الوجودات عن السبب الأول، وهي نظرية مستمدة من الفلسفة الأفلاطونية الحديثة. خلاصتها أنَّ الله يعقل ذاته، وعقلُهُ لذاته علّة صدور العالم عنه، فهو، لأجل ذلك، لا يحتاج في صدور العالم عنه شيء غير ذاته. والغرض من "نظرية الفيض" هو تعليل صدور الكثرة عن الواحد.

الجمع بين رأيي الحكيمين

ينقسم العالم، بحسب الفارابي، إلى قسمين: علويّ، هو عالم العقول والأفلاك، وسفليّ، وهو عالم ما تحت فلك القمر. ولأنَّ طبيعة العالم العلويّ أكمل يؤثر في العالم السفليّ تأثيرًا تامًا، فيما تؤثر أجزاء العالم السفليّ ببعضها البعض.

من جانب ثان، قسّم الفارابي النفس إلى ثلاث نفوس: نفس الأجسام السماوية، ونفس الإنسان، ونفس الحيوان. وخلاصة القول في هذا الجانب، يوجزها لنا كتاب "تاريخ الفلسفة العربية" لجميل صليبا كالآتي: "إن المعرفة حسية وعقلية. فالمعرفة الحسية تقوم على إدراك الجزئيات المتغيرة. أما المعرفة العقلية فتقوم على إدراك الكليات الثابتة. والنفس إنما تدرك الأشياء المحسوسة والمتخيلة بواسطة آلاتها، أما الكليات المعقولة فإنها تدركها بذاتها. وإذا كانت النفس تصل إلى إدراك هذه الكليات بذاتها، فمرد ذلك إلى أنها قادرة على الانتقال من رتبة العقل الهيولاني، إلى رتبة العقل بالفعل. ومن رتبة العقل بالفعل إلى رتبة العقل المستفاد. ومتى وصلت إلى هذه الرتبة الأخيرة لم يبقى بينها وبين العقل الفعال واسطة. وحين إذ يفيض عليها من العقل الفعّال قوة تمكنها من إدراك المعقولات إدراكًا مباشرًا. وبين مراتب المعقولات ومراتب الموجودات تقابل تام، ذلك لأن الأدنى من الموجودات ينزع به الشوق إلى ما فوقه. والأعلى منها يرفع الأدنى إليه، وكذلك العقل الإنساني، فهو ينزع إلى العقل الفعال كما أن العقل الفعال يهب الصور بجميع الموجودات الجسمانية، ويفيضها على العقل المستفاد، فلا غرو إذا جاءت المعرفة العقلية مطابقة لموضوعها الخارجي، لأن العقل الفعال يجمع في ذاته كل الصور فيرسلها إلى عالم الحسّ ويكسو بها المادة كما يرسلها إلى العقل الإنساني ليولد فيه المعرفة، وبين الصور التي في والعقل الإنساني والصور التي في عالم الحسّ مطابقة تامة تجعل المعرفة يقينية، ًومرد هذه المطابقة إلى صدور جميع الصور الحسّية والعقلية عن العقل الفعال، وغاية العقل الإنساني أن يتصل بهذا العقل المفارق ويتشبه به. ومعنى ذلك أن المعرفة يقينية لا تحصل إلا بفيض من العقل الفعال الذي هو واهب المعرفة وواهب الصور، فهي إذًا، معرفة إشراقية".

(يتبع في حلقة ثانية أخيرة)

 

اقرأ/ي أيضًا:

ركن الورّاقين: في صحبة فلاسفة الإسلام (الكندي)

ركن الورّاقين: الجاحظ مؤسّس البيان العربي