13-نوفمبر-2020

صالة سينما مهجورة في صحراء سيناء

قصدتْ السينما تحاول تقليد بعضٍ مما يفعله أبناءُ المحظوظة؛ من مثل تمضية ساعة واحدة على الأقل بذهنٍ متخفف من سِوى اللحظة الراهنة - لحظة الفوشار والكوكتيل - وحواس مدللة لا يشغلها إلا متابعة الشاشة. لكنّ المراهقَين اللذين كانا يتقدمان نادية في الممر الضيق المؤدي إلى صالة العرض كدّرا عليها المحاولة. فأحدهما مال بهاتفه على كتف الآخر وهمس له: "انظر إلى هذا المجنون"... كان هاتفه على مرمى بصرها وسمعها، وعندما كان صديقه يُعاين فيه ما بدا لهما أنه فيديو فكاهي، كان الفيديو قد سقط كالجمرة في معدة نادية وأحدث فيها ثقبًا حارقًا، إلى درجة أنه خُيّل إليها لوهلة أنها ابتلعت ملعقة من مادة تنظيف حمضية.

أخذ كلٌ مقعده في الصالة، بينما الأنوار لم تطفأ بعد. تحسستْ موضع الحرقة من على بطنها وهي تحاول تخمين المدة التي مرّت منذ آخر مرة تابعت فيديوهات لرموز الثورة. لم تستطع التخمين بدقة، لكنها تعلم أنّ هذا حدث منذ أن أخذت كلمة ثورة بالتلاشي من نشرات الأنباء.

كانت صالة العرض ما تزال مُضاءة قبل بداية الفيلم بدقائق. أخرجت هاتفها من جيبها وحاولت التأكد من الفيديو الذي شاهدته للتو لدى المراهقين. كتبت في اليوتيوب "وائل غنيم". فظهرت سلسلة فيديوهات لشاب، مشعث الشعر تارة، حليقه تارة. أقدم تسجيلاته يُنظّر فيها لثورة 25 يناير، وهذه لم تفتحها لأنها شاهدتها حين بُثّت  في بداية الثورة. في حين أنّ أحدثها كانت مقاطع يؤدي فيها الشاب ذاته حركات تهريجية، من بينها الفيديو الذي غصّ المراهقان ضحكًا منه للتوّ، والذي كان يهذي فيه ويهزّ خصره بلباسه الداخلي على إيقاع أغنية شعبية.

شعرت بالثقب في معدتها يتسع ويزداد حرقة، وكأنّ سيخًا حارًّا يكوي حوافه.

أطفأت شاشة الهاتف - في محاولة لاستعادة تخففها الذهني الذي وعدت نفسها به – فانتبهت إلى الخرابيش التي تملأ ظهر المقعد أمامها. لم تكن الكتابة على ظهر المقعد في متناول اليد، فكّرتْ. هذا يعني أنّ من قام بهذه الخرابيش اضطر إلى مدّ جذعه إلى الأمام مدة لا بأس بها كي يُنجزها.

أعتمت الصالة وآذنت ببدء الفيلم. لمعت الخرابيش في الظلام، لم تندهش نادية لهذا، فقد بدا واضحًا لها أنها خرابيش خُطّت بقلمٍ فسفوري. سرح خيالها في التساؤل عمّن تراه يبتاع تذكرة فيلم كي يمضي وقته خلاله في رسم خطوطٍ عشوائية! أتراها تكون فعلةَ طفلٍ مُرافِق؟ هذا مُستبعَد. فكّرتْ. فالأطفال تحت الثالثة عشر ممنوعون من دخول هذه الصالة. أتراه كان فيلمًا مملًا لأحدهم؟!

لنادية تجارب محمومة مع فِعل الخربشة، جعلتها مشاهدة هذه الخرابيش تغرق في تذكّرها. فقد تملّكتها حمّى الخرابيش الأولى في طفولتها المبكرة، عندما كانت تجتهد في الخربشة على أية ورقة فارغة تقع تحت يديها، آملةً ببراءة توقّعاتها أن تتعلّم بهذه الطريقة الكتابةَ التي تتوق إلى تعلّمها. وتملّكتها الحمّى الثانية في المرّات التي كانت تعلق سيارات إسعاف الجرحى ونقل الشهداء في أزمة المرور بجانب مدرستها الثانوية، ويعلو زميرهنّ المُنذِر بالخطر والموت. فتتوقف المعلمة عن شرح الدرس وتعمد إلى شدّ انتباه الطالبات المشتت إلى مواضيع تتعلق بمستقبلهن الأكاديمي. أمّا هي، فلم يكن يشد انتباهها في تلك الأثناء سوى قلمها المحموم بالخربشة على صفحة الكتاب أمامها.

نقّلت نظرها ما بين شاشة العرض والخرابيش على ظهر المقعد فيما تبقى من مدة الفيلم. ولمّا أعتمت الشاشة أخيرًا وأضاءت الصالة من جديد، غادر زوار السينما جميعًا، بينما بقيت هي في مكانها تحدّق في الخرابيش وذهنها ينوء بفراغٍ ثقيل، إلى أن اقترب منها رجل الأمن الخمسيني الذي يرابط على باب الصالة، وأمعن النظر في ما تحدّق.

- "عفوًا منكِ"، قال وهو يمدّ يده في حقيبة مثبتة على خصره، ويسحب منها بخّاخًا صغيرًا وفوطة. رشّ رغوةً صفراء على الخرابيش، فأخذت خطوطها تميع بتأثير المنظّف الذي زكم أنف نادية برائحته الحمضية القوية.

وبحركة سريعة، مسح الرجل الخرابيش بالفوطة حتى لمع ظهر المقعد النظيف. "واحد من الشبان المجانين فعلها"، قال الرجل، وتابع اعتذاره مُرفَقًا بابتسامة استسماح من نادية: "لا تؤاخذينا يا شابة، فمعظمكم جيلٌ مخّه معطوبٌ" .

 

اقرأ/ي أيضًا:

يلمعون في العتمة

القَلقُ الرّضيْعُ أثداءُ النّساء لا تكفيهِ

دلالات: