17-ديسمبر-2023
الشهيد رفعت العرعير

الشهيد رفعت العرعير (الترا صوت)

تقديم: فريق التحرير

في السابع من كانون الأول/ديسمبر الجاري، استُشهد الشاعر والأكاديمي الفلسطيني رفعت العرعير (44 عامًا) الذي يُعد من أبرز الناشطين الفلسطينيين الذين حملوا على عاتقهم نشر الرواية الفلسطينية باللغة الإنجليزية. وقُبيل استشهاده بعدة أيام، كانت مجلة "TIME" الأمريكية قد تواصلت معه لمعرفة كيف يستجيب أهالي قطاع غزة للحرب الإسرائيلية عليهم.

وقبل عدة أيام، نشرت المجلة 5 رسائل أرسلها لها الشهيد العرعير صوتيًا، وتحدّث فيها عن استجابته هو وغيره من أهالي قطاع غزة للحرب وما فرضته وترتب عليها من معاناة وظروف شديدة القسوة، إضافةً إلى الموت الذي يحوم حولهم على مدار الساعة. وهنا ترجمتها العربية.


عن مرونة المجتمع الفلسطيني

لطالما كان المجتمع الفلسطيني قويًا، لا سيما في غزّة. دائمًا هناك هذا الإحساس القوي للغاية بالمجتمع، وتشارُك المسؤولية، ومراعاة الناس لأفراد عائلاتهم، حتى ولو كانوا أقرباء من بعيد. هذا جزءٌ مِن قِيمنا؛ جزء من عاداتنا وتقاليدنا ليس فقط كمسلمين، بل أيضًا كعَرب، وكفلسطينيين.

العرعير: في غزة هناك دائمًا هذا الإحساس القوي للغاية بالمجتمع، وتشارُك المسؤولية، ومراعاة الناس لأفراد عائلاتهم، حتى ولو كانوا أقرباء من بعيد

حتّى على مستوى الأطفال والصبية. لستُ متأكدًا إن كنتم تسمعون أصواتهم في الخلفية، لكن لم يسبق لي قط أن رأيتُ الصِغار منسجمين ومتفقين إلى هذا الحد؛ يلعبون معًا، ويتقاسمون ما لديهم من دُمى وألعاب. قد يتشاجرون، وقد يتعفرتون أحيانًا. لكنهم لم يكونوا أبدًا بمثل هذا الانسجام معًا، لم أرَ هذا الحال من قبل.

الإحساس بالمجتمع، الإحساس بكوننا التئمنا معًا، وبأننا جميعًا مِن الممكن أن نُقتَل في أي لحظة؛ هذا الإحساس يضمّنا معًا ويجعلنا أقرب وأقرب. لا أحاول أن أرسم صورة رومانسية للحرب هُنا. فالحرب رهيبة وبشعة. هذا الإحساس بالهلاك، الإحساس بالموت الوشيك والبارود والقصف غير المنقطع. أتحدّث إليكم الآن والدبابات على مسافة 300 أو 400 متر على التقريب مِن مكاننا في مدينة غزة. قد نموت في أي لحظة.

لكننا نتشبث بإنسانيتنا، وهذا ما لا أني أكرره. قد ينتهي هذا بتدمير غزّة. توعَّد الإسرائيليون بإعادة غزة 150 سنة إلى الوراء، وتحويلها إلى مدينة خيام. ويمكن أن ينتهي بنا الحال إلى التهجير القسري؛ إلى نكبة أخرى، لكنها نكبة أفظع وأبشع من النكبة الأولى ذلك لأنَّ هذه معروضة على شاشات التليفزيون، ومبثوثة على الهواء في الإنترنت ومواقع التواصل.

كفلسطينيين، ومهما كانت نتيجة ما يحدث، فإننا لم نفشل. فعلنا ما بوسعنا. ولم نخسر إنسانيتنا.

عن كَرم الناس

أتذكّر أنّه خلال الأيام الأولى من الإبادة الإسرائيلية، ذهبتُ لمتجرٍ لأشتري حليبًا مجففًا. قال شخصٌ آخَر: "أيمكن أن آخذ واحدة من تلك؟" فقال صاحب المحل: "آسف، هذه آخر واحدة". وكدنا أن نتشاجَر. أنا أقولُ له: "لا، خذها"، وهو يقول: "غير ممكن، أبدًا لا آخذها". وأنا أقولُ له: "عندي واحدة في البيت. أرجوك خذها". لا بدَّ أنكم تعرفون كيف يتشاجر العرب دائمًا عند دفع الحساب في المطاعم، وأحدهم يزاحم الآخر ليسبقه ويدفع قبله. كان هذا جميلًا، الرجل يُصر على أنه لن يأخذها، وأنا أصر على أن أعطيها له. لكنه ردَّها لي ورفضَ بأدب، في نهاية الجدل.

عندما قُصف منزلنا، كنا بالبيت. ولم يكن هناك أي تحذير مسبق فهرعنا هاربين منه، بعضنا حافي القدمين. كل ما فعلناه أننا التقطنا الحقيبة، تلك الحقيبة الشهيرة في غزَّة التي يضعها الناسُ بالقرب من باب بيوتهم في الداخل، وذلك كلّما نشبت حرب، وفيها الوثائق المهمة، وأي أوراق مالية والنقود السائلة وذهب النساء، وما إلى ذلك. وهكذا ركضنا بلا شيء، وبلا طعام. تركنا خلفنا كل شيء، الطحين، ومواقد الغاز، والبيض، والأطعمة المعلّبة، وذهبنا بلا شيء إلى إحدى مدارس الإيواء وكان الناس مرحّبين للغاية بنا رغم حقيقة أنه كان هناك عدد كبير جدًا من الناس.

كان الوضع في منتهى الصعوبة. ليس لدينا إلَّا القليل للغاية من الماء، والقليل للغاية من الطعام. في الصباح التالي، عرف بعض الناس أننا قُصفنا وأتينا من دون شيءٍ لنأكله فشاركونا ما لديهم. كان هذا جميلًا. منذ ثلاثة أيام، وقعَ قصفٌ رهيبٌ هنا. نزلت من البناية بسرعة شديدة وكانت هناك امرأة مع طفلين، كانا يبكيان. توقفت وأخذت تمرتين وأعطيتُهما للطفلين. اندهشت المرأة وسكتَ الطفلان؛ ما عادا يبكيان. أعتقدُ أنَّ الأمر مُعدٍ. فعل الخير مُعدٍ. يجعلك تشعر بأنكَ كَيّس. تشعرُ بالمكافأة والعوض بمساعدتك للآخرين، وهذا يجعل الآخرين يساعدون آخرين غيرهم. وهذا هو ما أريد؛ أن يصبح هذا مُعديًا بالمعنى الإيجابي. وأنا أرى أشخاصًا يفعلون هذا طوال الوقت.

العرعير: الإحساس بالمجتمع، الإحساس بكوننا التئمنا معًا، وبأننا جميعًا مِن الممكن أن نُقتَل في أي لحظة؛ هذا الإحساس يضمّنا معًا ويجعلنا أقرب وأقرب

كانت هناك مشاجرة أخرى أوشكَت أن تنشب بيني وبين سائق تاكسي. تعرف أنك في غزة لا تأخذ عربة تاكسي كلها خصوصي لك وحدك، بل هي مثل نظام Uber Pool [حيث يتقاسم الركّاب السيارة ما دام اتجاههم واحد]. وهكذا فإنك تنادي على تاكسي وهو يواصل اصطحاب ركّاب آخرين وهو في الطريق. وهكذا فذات يوم، كنتُ في سيارة تاكسي وسرنا لخمس دقائق وظهرت أم مع ابنتها واستوقفتنا. قبل أن تدخلا، قالتا: "لكن ليس معنا نقود". وبلا تردد، قال السائق: "ادخلا". وفي الوقت نفسه، قلتُ: "سأدفع عنهما". ودخلتا السيارة وكان هو يردد: "لا، مستحيل أن آخذ منك". فأقول: "أبدًا، لا يُمكن، مستحيل ألَّا أدفع لك لأنني أعرف كيف صار ثمن الوقود غاليًا جدًا". وأصرَّ وأصررتُ ودفعتُ له بالطبع.

عن الأزمة الإنسانية

الضغط، الجوع، العطش والافتقار للماء، كل هذا يجعل من الصعب على الناس أن يكونوا على طبيعتهم، أن يكونوا كُرماءً. وأعتقد أنَّ الأمر سيزداد سوءًا على سوء خلال الأيام المقبلة. وكُلّي أمل، ألّا تصل الأمور لهذه الدرجة. لكنَّ الناس تموت جوعًا حرفيًا ويقترون على أنفسهم في كل شيء. عندما كنت لم أزل في البيت، كنا نقتّر ونقتصد، نأكل ونشرب رُبعَ ما اعتدنا عليه. الآن نأكل أقلّ، ونشرب أقل. لكنَّ الأمر مستحيل مع الصِغار. شخصيًا فقدتُ خمسة كيلوهات، لكني لا أهتم. أستطيع أن أكتفي بتمرة واحدة كلَّ 10 أو 15 ساعة. أنا رجلٌ شاب، لكن كيف عساك أن تقول لطفلٍ إنه لا يمكن أن يأكل، إنه لا يمكن أن يحصل على ما يبتغي، إنه لا يمكن أن يشرب ما يرويه؟ أكرر قولي للصغار: "اشرب أقلّ، كُل أقلّ".

معظم الناس – وقد أقول الغالبية العظمى منهم – يشترون طعامًا كافيًا لمدة حوالي أسبوع بحد أقصى، ويتركون المتبقي للآخرين. وكُلّما ذهبتُ لمتجرٍ كنتُ بنفسي أقول بصوتٍ مسموع: "كَم مِن تلك المعلبات مسموح لي بشرائها؟" وأحيانًا يُصدَم البائع لأنَّ شخصًا ما يطرح هذا السؤال. أواصل تكرار القول بأنني لا أريد أن أكنز الأشياء وأخفيها. لا أريدُ أن أجعل الناس في حالة ذُعر، لا أريد أن أشتري أكثر من حاجتي.

عن تقديم المساعدة المالية

خلال هذه الحروب، يصير الناس أكثر قربًا من بعضهم البعض. عَن نفسي، وقع معي الكثير من الأشياء أو لآخرين مِن حولي، أشياء رأيتُها، وأشياء عايشتُها، وأشياء ساهمتُ شخصيًا فيها كشخصٍ لديه بعض النقود. من الناحية المالية، حرصتُ على أن يكون أعضاء عائلتي معهم ما يكفي من المال ليقيم أودهم. الأمر نفسه مع والديَّ. كما أنني تأكّدتُ مِن أنَّ أصدقائي والأشخاص المحيطين بي بغير حاجة للمال، ومن أنهم ليسوا عاجزين على شراء الأغراض لعدم توفر المال بين أيديهم.

كما أنني عرضتُ المساعدة المالية على طُلّابي. لكن ليس من السهل أن تعطي الأشخاص نقودًا الآن. فالبنوك وماكينات الصرافة الآلية مغلقة كلها. لكن ما فعلتُه أنني أخبرتُ الناس أن يتصلوا بي إذا كانوا بحاجةٍ إلى رصيد جوالاتهم للاتصال بالآخرين، من أجل الاتصال بأسرهم وأصدقاهم أو شراء باقة إنترنت. أعتقد أنني حوّلت نقودًا لنحو 15 رقم هاتف جوَّال. إنه شيء يدعوني للفخر بنفسي، وأعرف أشخاصًا آخرين يفعلون الأمر نفسه، أشخاص لديهم وسيلة اتصال بالإنترنت وإمكانية إجراء عمليات بنكية عبر الإنترنت.

عن دعمه لطلّابه في كتابتهم

أدرّس الشِعر الإنجليزي هذا الفصل الدراسي ولدي 200 طالب. نشرتُ إعلانًا على جروب الفيسبوك الخاص بنا أخبرهم فيه بأسفي لأنني لا أستطيع مساعدتهم بما فيه الكفاية، لا أستطيع أن أحميهم كما ينبغي للمعلّم أن يحمي طلّابه. وطلبتُ منهم أن يكتبوا؛ أن يكتبوا شعرًا، أو مقالاتٍ بالعربية والإنجليزية، وساعدتُ بعضًا منهم في نشر تلك المقالات والقِطَع والقصائد كجزءٍ من دوري كمعلّم، برغم من كوني تحت ضغط هائل، وقد قُصفَ بيتي وبنايتي واضطررتُ إلى الجلاء عن العديد من الأماكن والملاجئ. غالبًا ما ألخّص سياستي مقتبسًا قول هاملت ]في مسرحية شكسبير[: "لا بدَّ أن أكون قاسيًا لأكون حنونًا". الحبّ القاسي. هكذا أخبر طلّابي، "إنني أقسو عليكم لأنني أحبكم، ولأنني أهتم بكم. أريد لكم أن تكونوا طلّابًا أفضل". وهكذا أكون شديدًا معهم من حيث الانتظام في الحضور والواجبات والمهام والامتحانات. يخشاني طلّابي عمومًا في الحياة، في الجامعة، وحتّى في خارجها، غالبًا ما يكونون حذرين متحفظين معي بالرغم من حقيقة أنني أحاول أن أكون ودودًا معهم بقدر المستطاع. ولكن مرة أخرى، المعلم الشديد دائمًا يكون مرهوبًا، ولو على نحوٍ ما.

العرعير: كفلسطينيين، ومهما كانت نتيجة ما يحدث، فإننا لم نفشل. فعلنا ما بوسعنا. ولم نخسر إنسانيتنا

كنتُ أقف في طابور المخبز وأصرَّ [واحدٌ من طلّابي] على أن يعطيني مكانه في الطابور، وأنا أصررت، "أبدًا. ذلك لأنَّ إسرائيل تعاملنا الجميع بالتساوي. يقتلون الجميع، ويجوّعون الجميع، ويجعلون الجميع يعانون بنفس القدر تقريبًا. لن آخذ مكانك أبدًا". تعلّمت من هذا الطالب هذه اللفتة الجميلة في تقديم مكاني لآخرين. لأنَّ معنى أن يقدّم لي مكانه أنه يوفّر عليَّ ساعة أو أكثر. في بعض الأحيان قد تظل واقفًا في الطابور لساعتين أو ثلاث أو أربع أو خمس ساعات، ومع هذا بالمناسبة، عندما تصير قريبًا يكون الخبز قد نفد. وهكذا فإنها تضحية كبيرة. في وقتٍ تالٍ، قابلتُ طالبًا [آخَر] من طلّابي. كنت في مكان متقدّم من الطابور، وأتى هو وتوجّه إلى نهاية الطابور، قابلته وأصررتُ على أن أعطيه مكاني، كرد فعل على عرض ذلك الطالب الآخر مكانه عليَّ. صُعقَ من الدهشة وقال: "لا، أبدًا، مستحيل"، فقلت:"أنا مصر". بالطبع لم يأخذ مكاني. رفض، ولكن من جديد، إنها اللفتة؛ الرسالة كانت حاضرة هناك. أنا على ثقة من أنه سيفعل الأمر نفسه مع آخرين. مسألة التعلّم بضرب المثال، أن تكون نموذجًا للآخرين.

ولأنني كنتُ قد علَّمته أن يكتب قطعَا صحافية، سألته: "كيف حالك؟ هل تكتب شيئًا؟" فقال: "أكتب شيئًا". فقلتُ له: "إذا كتبتَ شيئًا أرسله لي. يمكنني إرساله إلى موقع الانتفاضة الإلكترونية. إلى المحرر عليّ أبو نِعمة". لكنه لم يفعل، لم يرسل لي شيئًا. أعتقد أنني سوف أتفقده، لأتأكد من أنه بخير. وإذا كان قد كتب القِطعة يمكنني أن أساعده في نشرها.