11-سبتمبر-2022
الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين

الشاعر محمد علي شمس الدين

يأتي الموت بغتة وبلا إنذار. لا يترك لنا فرصة لوداع أو لقول كلمة أخيرة. يسبقنا وكأنّه يعرف أننا ننزعج ونحزن ويستلذّ بذلك. نعرفُ الخبر وتبدأ وشائج التحسّر على ما قلناه والأكثر على ما لم نقله. هكذا تُبنى العلاقات والأواصر، ثم تمشي بحذر غريب ولا تنبئنا بأنّها قد يأتي يوم وترحل. يأتي يوم ويغدو أصحابها شديدي البُعد بمقدار ما كانوا قريبين.

تبقى أعمال محمد علي شمس الدين حاضرة في الذهن حاضرًا رغم كلّ اختلاف وتباين. وما يُعين على الفقد والوداع والصّبر والنسيان هو أنّ الشّعر وحده يبقى في النهاية

ليس غريبًا أن نحسّ هكذا. هذه طينة والطّينة موجودة لدى كلّ البشر. نظنّ أن لدينا أعمارًا لنتمتّع بوجود من نحبّ ولا داعي للقلق والخوف عليه ومنه ومن فرضيّة رحيله التي لا يمكن أن تخطر على بال.

كنتُ قد قرأتُ عددًا من دواوينه قبل أن أعرفه. دواوين أهداني إيّاها أستاذي في الجامعة آنذاك موصيًا بضرورة قراءتها، لأنّ صاحبها صاحب تجربة كما قال. "طيورٌ إلى الشّمس المرّة" "أناديكَ يا ملكي وحبيبي" "أميرال الطّيور" "غيمٌ لأحلام الملك المخلوع"... دواوين عديدة عشتُ معها لفترة لدرجة أنّني حفظتُ جزءًا مهمًا منها، نحفظ أشياءً في بعض الأحيان ولا نعرفُ ما السّبب، شيءٌ من الدّاخل فقط يأمُرُنا بذلك.

يتصّل بي أستاذي الجامعي قائلًا: إذا أردتَ أن تلتقي محمد علي شمس الدّين، تعال إلى المجلس الثقافي للبنان الجنوبي مساء اليوم، سنكون معهُ في قراءات شعريّة. ذهبتُ والأفكار تتلاطم في رأسي، وكأنّ في كلّ مرحلة عمريّة من عمر شاعر شاب، يختار هو صورته ومثاله وكان شمس الدّين يومها المثال الجميل والصّورة الأنقى لشاعر أريد أن أكونه. لم أتأخّر في الوصول، شمس الدّين على المنبر يتلو شعره ويرندحُ مع موسيقاه الخفيّة السّاحرة وأنا منطرب. تنتهي الأمسية والحوار بعدها لأقترب منه فينظر إليّ وكأنّه يعرفني من قبل، أفتحُ فمي وأنشدُ: شجرُ الحور دخان/ والنهر دخان/ ورذاذ المطر الناعم فوق الجرح دخان/ فلتفتح يا آذار شبابيك التيه/ لي طفل يبحث عن لعبته/ في قبر أبيه/ زينب/ جرس المدرسة- الخوفُ/ الأزهار-الخوف/ الكتب-الخوف/ القلمُ المكسورُ- الممحاةُ لماذا؟". ينظرُ إليّ بإعجابٍ ويبتسم. من تلك اللحظة ابتدأت صداقة قوامها الحبّ والعرفان والشّعر والشّجن الجنوبيّ.

قصائد مهربة الى حبيبتي اسيا
المجموعة الأولى للراحل

كان يجاذبني أطراف حديثه بانتباه، والشّعر هو المقصد دومًا والمبتغى. يبدأ من نقطة لقاء أساسيّة لديه "الشّعر هو كلّ أشكاله". يستمع ويضيف ويؤكّد ويبحث كلّ الوقت عن الشّعر في الجملة والحديث وعن الشّاعر التائه الذي فيه. لم يخرج يومًا من تراثيته ومن تعلّقه بالتراث، كنتُ كلّما ألقاه يشدّد: "لا شعر بلا تراث يا محمود.. عليك بقراءة التراث". ويستفيض ويكمل. يخترعُ فرصًا ليحاور الآخر، ويحدثه عن الشّعر النازل من فوق من مناطق خفيّة ومجوّفة، فوق الطبيعة والمألوف، الخارج عن كلّ تصوّر. كان الشّاعر بالنسبة له ذلك الرّائي.

تبقى الكلمات في دواوينه شاهدة على شعريّته، ويبقى في الذهن حاضرًا رغم كلّ اختلاف وتباين. من أورثنا حبّ الشّعر يرحل آخذًا معه كلّ الذكريات. ما يُعين على الفقد والوداع والصّبر والنسيان هو أنّ الشّعر وحده يبقى.