11-أكتوبر-2019

شوقي الماجري (Getty)

غيّب الموت يوم أمس الخميس المخرج التونسي شوقي الماجري (1961 – 2019) إثر تعرضه لأزمة قلبية حادة في مدينة القاهرة التي يتخذها مكانًا لإقامته، تاركًا خلفه أكثر من عشرة أعمال درامية، وفيلمًا سينمائيًا يتيمًا بعنوان "مملكة النحل"، ومجموعة من الأفلام القصيرة، ليخلف رحيله المبكر فراغًا استثنائيًا في تاريخ الدراما العربية المعاصرة.

ترك شوقي الماجري أكثر من عشرة أعمال درامية، وفيلمًا سينمائيًا يتيمًا بعنوان "مملكة النحل"، ومجموعة من الأفلام القصيرة

ولد صاحب "الطريق الوعر" في حي باب سويقة، أحد الأحياء الشعبية بالعاصمة التونسية في الـ11 من تشرين الثاني/نوفمبر 1961، لعائلة تونسية متواضعة مؤلفة من تسعة أخوة كان هو أصغرهم، بحسب ما تشير سيرته الذاتية، وبعد إنهاء المرحلة الثانوية توجه الماجري لدراسة علم الاجتماع مطلع الثمانينيات على الرغم من اهتماماته السينمائية التي منعه عن دراستها عائلته.

اقرأ/ي أيضًا: أحوال الدراما السورية وتحولاتها.. شي فاشل!

كانت منطقة باب السويقة خلال تلك الفترة تشهد مرحلًة جديدة من النهضة الثقافية حيثُ بدأت النوادي السينمائية بالانتشار فيها، بعد انتهائه من مشاهدة فيلم بولندي يتحدث عن المدرسة السينمائية البولندية جرى عرضه في مهرجان قرطاج السينمائي نهاية الثمانينيات، قرر الماجري الانقطاع عن دراسة علم الاجتماع، واستبدالها بالذهاب إلى بولندا لدراسة الإخراج السينمائي في المدرسة العليا للسينما والمسرح "لودز"، حيثُ تخرج منها عام 1994.

كحال المخرجين الشبان جميعًا واجه الماجري – كما تشير سيرته الذاتية – صعوبة في العمل السينمائي حين عودته من بولندا، فتوجه لصناعة الأفلام القصيرة التي سجّل بها انطلاق مسيرته الإخراجية، فأنجز خلالها مجموعة أفلام قصيرة كان من بينها "مفتاح الصول" و"أورليانو" و"البريد"، ومثلما درّجت العادة في الأعمال السينمائية القصيرة لم نستطع أن نجد أي منها عند البحث عنها عبر المواقع الإلكترونية.

لم يستمر الماجري طويلًا في صناعة الأفلام السينمائية القصيرة، فتوجه إلى سوريا لتوقيع أولى أعماله الدرامية بإخراج الجزء الثاني من المسلسل التاريخي "إخوة التراب" عام 1998، مستعينًا بنجوم الجزء الأول قدّم الوافد الجديد للدراما العربية عملًا يوثق الحياة السياسية في سوريا خلال فترة الانتداب الفرنسي، ومراحل تطور وبلورة الفكر المقاوم للانتداب الفرنسي، وصولًا إلى انطلاق الثورة السورية الكبرى.

شهد العام عينه توقيعه عمله الدرامي الثاني "تاج من شوك" الذي يحكي في إطار تاريخي عن صراع بين جيلين من أسرة واحدة، لذا ليس غريبًا أن يكون العمل الذي شهد انطلاقة الماجري الأولى دراميًا، واحدًا من الأعمال الفارقة في تاريخ كلاسيكيات الدراما السورية أولًا، ولعل هذه الانطلاقة هي التي دفعت الماجري للاستمرار بتقديم الأعمال الدرامية التاريخية والفانتازية ثانيًا، فالمتتبع لمسيرة الرجل الفنية يلمس أنه كان أكثر قربًا من الأعمال التاريخية أو القضايا السياسية المعاصرة المشغولة بالهم العربي.

يصور الماجري في "الاجتياح" استماتة القوات الإسرائيلية في قمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية

هكذا أنجز "الأرواح المهاجرة" التي تتبع سيرة عائلة ضمن ثلاثة حقب زمنية هي: الخلافة العثمانية، الانتداب الفرنسي، وفترة الانقلابات العسكرية في سوريا، ثم قدم "عمر الخيام" للشاشة العربية في عام 2002، وبعدها "شهرزاد والحكاية الأخيرة" في عام 2004، ليتوقف هنا عن تقديم الأعمال التاريخية، ويبدأ تجربته مع الأعمال الاجتماعية/ السياسية المعاصرة بتقديمه مسلسل "الطريق الوعر"، الذي ناقش طريقة تفكير الجماعات الإسلامية المتشددة من بوابة صحفي كان متواجد في أفغانستان قبل التدخل الأمريكي، وحين عاد وجد نفسه عن طريق الصدفة معتقل لدى إحدى الجماعات المتطرفة في إحدى المدن الافتراضية العربية لعالمنا المعاصر.

اقرأ/ي أيضًا: شخصيات الأدوار الثانية في الدراما السورية

عاد بعد ذلك الماجري مرًة أخرى للدراما التاريخية بتقديمة "أبناء الرشيد: الأمين والمأمون"، ليعود لاحقًا مقدمًا "الاجتياح"، الذي نال عليه جائزة  إيمي العالمية الموازية لجائزة الأوسكار، وعلى الرغم من امتناع معظم القنوات الفضائية العربية عن عرض العمل باستثناء قناة LBC اللبنانية، بسبب ما اعتبرته أنه قريب جدًا من حركة فتح الفلسطينية، فإن العمل حتى الآن يبقى من أهم الأعمال التي تطرقت للقضية الفلسطينية.

يعيد الماجري في "الاجتياح" تصوير واحدة من مراحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي عندما جهدت القوات الإسرائيلية في قمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ليروي الماجري بعدسته تفاصيل معركة جنين التي حصلت في نيسان/إبريل 2002، وأظهر عمليات القصف الوحشية التي شنتها القوات الإسرائيلية على المقاومين الفلسطينيين، فضلًا عن إن الماجري غامر في العمل إلى النهاية نظرًا لملاحقة العمل قصة حب تنشأ بين أحد أفراد المقاومة الفلسطينية وفتاة يهودية، هذه المغامرة التي أراد بها الكشف عن الجانب الإنساني للمقاومين الفلسطينيين بعيدًا عم الصورة النمطية التي تصدرها وسائل الإعلام الإسرائيلية.

ثم عاد الماجري مجددًا للتاريخي ليقدم سيرة الخليفة العباسي "أبو جعفر المنصور"، ويخرج بعدها بواحد من أهم أعمال السيرة الذاتية عربيًا حين قدم مسلسل "أسمهان"، الذي عكس من خلاله الجوانب الفنية والإنسانية والمخابراتية للفنانة السورية آمال الأطرش، وقدم أدق التفاصيل التي رافقت حياتها إلى يوم وفاتها التي تركها مفتوحة للمشاهد، فهو إن كان لم يخرج عن الإطار العام لسيرتها الذاتية التي تقول إنها قتلت غرقًا، فإنه ترك فضاء هوية الجهة التي وقفت أمام قتلها مفتوحًة للمتفرج للحكم عليها، وربما هذا ما جعله ينال عن العمل جائزة أدونيا للدراما السورية.

مرًة أخرى يعود الماجري للهم العربي المعاصر من بوابة "هدوء نسبي"، العمل الذي اقتبس عنوانه عن منجز موسيقي لزياد الرحباتي كان يعكس في تسميته الهدوء الذي كان يرافق الاشتباكات العنيفة إبان الحرب الأهلية اللبنانية، لكن في عمل الماجري كان الحديث عن مجموعة صحفيين سافروا لتغطية الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، فقدم عملًا أكثر من متكامل بتطرقه للجانب الإنساني من خلال العلاقة العاطفية التي عادت لتنشأ بين صحفيين من سوريا ومصر، وتعاطي أجهزة الأمن العراقية بطريقة قمعية مع الصحفيين العرب الذين قدموا لتغطية الغزو الأمريكي، لأنها لم تتوافق مع الرواية الرسمية للأجهزة الأمنية العراقية، ولاحقًا مع الجنود الأمريكيين، وتصويره لمعاناة العراقيين أنفسهم في مرحلة الحصار أو ما بعدها، لينال عن المسلسل للعام الثاني على التوالي جائزة أدونيا.

بعد ذلك قدم الماجري عملي "توق"، و"نابليون والمحروسة"، وكان له أيضًا منجزه السينمائي الوحيد "مملكة النحل"، الذي لم يخرج عن إطار القضية الفلسطينية، ومعاناة الفلسطينيين في ظل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ليسجل بعدها توقيعه على مسلسل "حلاوة الروح" الذي يحاكي مرحلة الربيع العربي بصورة أكثر من موضوعية، جمع فيها بين نجوم الدراما من سوريا ومصر لبنان بمختلف توجهاتهم السياسية.

ما قدمه الماجري في "حلاوة الروح" تجاوز المألوف بروايته لقصة حب نشأت بين شاب وفتاة سوريين، لكن سوريا "ما كانت فاضية للحب" كما تقول الفتاة العاشقة في أحد المشاهد، هكذا لم تتجاهل عدسة الماجري أدق التفاصيل الإنسانية في العمل، توليفة عما آلت إليه مصائر الشباب الذي كان يطمح للتغيير كما غيره من شبان ثورات الربيع العربي، فوجد نفسه حاملًا للسلاح للدفاع عن نفسه من القتل، بإظهار العمل لكافة الفصائل والمجاميع الحاملة للسلاح، ومصورًا لها في أدق لحظات انهيارها وانكسارها وتحولاتها في الولاء، لذلك ربما يمكن القول إن العمل لم يكن حياديًا بقدر ما كان جامعًا لكافة الضمائر المنخرطة في الصراع الدائر حتى الآن.

في "دقيقة صمت" تنقلت عدسة الماجري لتروي قصة عن الفساد المتغلغل في المؤسسة الأمنية والعسكرية السورية، والصراع بين الضباط الكبار على السلطة

كان لا بد بعد إنجاز عمل بحجم "حلاوة الروح" من الاستراحة قليلًا من الهم العربي من خلال عمل "سقوط حر" الاجتماعي، إلا أن الماجري يرفض الصمت طويلًا فعاد في الموسم الرمضاني بعمل "دقيقة صمت"، الذي أحدث ضجة إعلامية كبيرة بعد عرضه، رغم بعض الخلل الذي ساد حبكته الدرامية، إلا أن ذلك لم يمنع العمل من تصدر قائمة الأعمال الدرامية الأكثر مشاهدًة على مستوى الوطن العربي.

اقرأ/ي أيضًا: أمة فيها "جبل شيخ الجبل" لن تهزم!

في "دقيقة صمت" تنقلت عدسة الماجري لتروي قصة عن الفساد المتغلغل في المؤسسة الأمنية والعسكرية السورية، والصراع بين الضباط الكبار على السلطة، كان كافيًا لما أحدثه العمل من ضجة أن يدفع بوزارة المالية في حكومة النظام السوري بالانتقام بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لمنتجيه، مرًة ثانية استطاع الماجري بعدسته الجمع بين الموالين والمعارضين لكن من بوابة الفساد الذي يتغذى على أجساد الطبقات الاجتماعية المنهارة في سوريا، وربما لذلك أراد الابتعاد عن الصراع السوري الراهن، بتقديمه رواية يرجع تاريخها لما قبل عام 2011 لربما استطاع أن يجمعهم على فكرة واحدة في زمن الانقسامات والانهيار المجتمعي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"دقيقة صمت".. ثورة في الدراما السورية بعد الثورة

عن واقعية الدراما السورية بعد موسم مخيّب