06-ديسمبر-2020

ثوار جزائريون (AFP)

صُدم العالم، وبصفة خاصة محبّو "أنوار" باريس، عندما عرضت قناة تلفزيونية فرنسية في العام 2016  خفايا "متحف الإنسان" في باريس، وتبين أنه يضم 18000 جمجمة تعود لأشخاص من مختلف الجنسيات والقوميات والأعراق بما فيها أوربيون وفرنسيون. تم التعرف على أصحاب 500 منها، وتبين أن معظمها يعود لأشخاص ينتمون إلى مستعمرات فرنسية حول العالم، كانوا قد قاوموا الاستعمار الفرنسي لبلدانهم، فتم قتلهم وقطع رؤوسهم وإحضار جماجمهم إلى فرنسا في عملية استعراض للقوة كانت منسجمة مع/ ومكملة لـ فكرة "حدائق الحيوان البشرية" التي انتشرت في أوروبا وأمريكا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين!

من حدائق الحيوان البشرية إلى متحف الإنسان، يظهر تاريخ غائر وطويل من الشعور بالتفوق الأوربي ومن استعراض القوة وإهانة الإنسانية

من حدائق الحيوان البشرية إلى متحف الإنسان يظهر تاريخ غائر وطويل من الشعور بالتفوق الأوربي ومن استعراض القوة وإهانة الإنسانية.

اقرأ/ي أيضًا: متحف باسل الأسد.. صناعة تاريخ "الجزمة"

تعود القصة إلى العام 1938 حيث أنشأ عالم الأنساب الفرنسي بول ريفت "متحف الإنسان" بدعم من الحكومة الفرنسية آنذاك، وحصل على مقتنيات من مخازن المتاحف ومن المخازن الملكية التي تضم "مقتنيات بشرية" منذ منتصف القرن السادس عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر: جماجم وهياكل عظمية وعظام وغيرها... قال عالم الأنساب الفرنسي إن غايته من إنشاء المتحف هو "إثبات أن العنصر الأوروبي هو أصل البشرية". الجدير ذكره أن هذا العالم كان قد انضم لمقاومة النازية إبان الاحتلال النازي لفرنسا! ثم أراد عرض جماجم الشعوب الأخرى ليثبت التفوق الأوروبي! وكأنه غير مقتنع بفشل أوروبيين وأمريكيين قبله، بتواطؤ العلم والسياسة والمال والفلسفة، عندما أرادوا إثبات ذلك التفوق بشتى السبل، ولم يصلوا إلا إلى النتيجة التي أقرتها البشرية منذ زمن طويل وهي أن العالم هو كل أقوامه وأعراقه ناسه، وأن لا تفوق لشعب على آخر، ولا نقاء عرقيًا ولا ثقافيًا لدى أي جماعة أو فرد!

تم تبرير الاحتفاظ بتلك الجماجم وعرضها في متحف كل تلك السنين، حتى بعد أن "تبرأت" فرنسا من تاريخها الاستعماري أن الشعب الفرنسي يمتلك معلومات ضئيلة عن الشعوب الأخرى، وأنه -عبر دراسة تلك الجماجم- يمكنه التعرف أكثر فأكثر على تلك الشعوب. وكأنما الـ DND يحتفظ بخصائص ثقافية وتاريخية عن الشعوب وعاداتها وطقوسها! لكن القناة الفرنسية التي عرضت تلك "الخفايا" قالت إنه تم إحضار الجماجم من الجزائر والمستعمرات الفرنسية الأخرى "لأغراض سياسية وعلمية".

خلال دراسة تاريخية كشف الباحث الجزائري علي فريد بلقاضي عام 2011 عن وجود 36 جمجمة لمقاومين جزائريين بين الـ 500 جمجمة التي تم التعرف على أصحابها الذين قتلتهم فرنسا وقطعت رؤوسهم وأحضرت جماجمهم معها إلى فرنسا، وتعرف بنفسه على جمجمة القائد "بن بغلة" من خلال ثقب في العين حيث كان تلقّى رصاصة فيها وسُمي على إثرها بـ "الأعور"، وعبر ذلك الاكتشاف أثار الرأي العام الجزائري للمطالبة باستعادة جماجم المقاومين.

في شهر حزيران/يوليو  من العام الجاري 2020، استعادت الجزائر24 جمجمة من أصل 36 معروفة لمقاومين وقادة جزائريين وذلك عبر مفاوضات ومقايضات، وبعد 170 عامًا تم إعادة الجماجم لتُدفن في الأرض التي قُتل أصحابها لأجلها!

من بين تلك الجاجم الـ 500 تم التعرف على جمجمة سليمان الحلبي، الذي جاء من مدينة حلب في سوريا وقتل خليفة نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر الجنرال كليبر 1801، وقد كتبوا تحت الجمجمة عبارة "جمجمة مجرم".

توجد بين جماجم "متحف الإنسان" في باريس جمجمة سليمان الحلبي، الذي جاء من مدينة حلب وقتل خليفة نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر الجنرال كليبر 1801

استطاع الطالب الأزهري البالغ من العمر 24 عامًا آنذاك التسلل إلى قصر الجنرال كليبر، وطعنه أربع طعنات قتله على إثرها، كما وجّه طعنات أخرى لمرافقه -وكان مهندسًا- حين أراد الدفاع عن الجنرال، ثم هرب. في اللحظة ذاتها شاع خبر مقتل كليبر فتم تطويق القاهرة بالمدافع وهدّد الفرنسيون بإحراق المدينة خوفًا من انتفاضة ثالثة للشعب المصري، وشاع -بالمقابل- خوف بين المصريين من انتقام المستعمر.

اقرأ/ي أيضًا: هيومن رايتس ووتش: ماذا تعرف عن الوجه القبيح لمتحف اللوفر أبوظبي؟

إلا أن الجنود الفرنسيين تمكنوا خلال وقت قصير، خلال ساعة، من القبض على سليمان الحلبي خلف أحد جدران القصر مع خنجره الذي قتل به الجنرال. وخلال محاكمة عسكرية سريعة تم الكشف أن الحلبي أعلم مجموعة من أصدقائه بنيته قتل كليبر، وأنهم أرادوا ثنيه إلا أنه لم يذعن. ألقي القبض عليهم وتم حكمهم بالإعدام بتهمة عدم إبلاغ السلطات الفرنسية بذلك، ففر واحد و بُرّئ آخر، وتم تنفيذ الحكم بإعدام الثلاثة الآخرين، وبعد إعدامهم تم حرق جثثهم على مرأى من الحلبي. ثم تم تنفيذ الحكم به بأن أحرقوا ذراعه اليمنى التي قتل بها، ثم أُدخل خازوق بمؤخرته وخرج من فمه، ورُفع الخازوق وبقي الحلبي معلقًا عليه في الساحة لأربع ساعات ونصف تنهشه الطيور حتى أشفق عليه أحد الجنود الفرنسيين فأعطاه ماء، فشرب ومات على الفور.

خلال انسحاب القوات الفرنسية من مصر بقيادة الجنرال مينو أمر الأخير بجمع رفات كليبر ورفات الحلبي وأخذهما معه إلى فرنسا. أما وأن رأس الحلبي موجود في المتحف، فرفاته مجهولة المكان.

قد تكون إعادة جماجم المقاومين الجزائريين (بعضهم) إلى الجزائر حافزًا مستقبليًا للمطالبة بإعادة جمجمة الحلبي ليدفن في أرضه، كما يليق به وبسيرته الكثيفة والقصيرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كاميرا الاستعمار

الجنس الاستعماري