12-أكتوبر-2015

ناشط سوري معارض في غازي عنتاب (واشنطن بوست/Getty)

تناولت الكثير من التقارير الصحفية مسألة الكتابة في ظل الحرب القائمة في سوريا، معظمها ركز على الإطار الأمني والسياسي المحيط بالكاتب، دون أن تتحدث عن التحديات الأصغر التي يواجهها نشاط فوضوي مثل الكتابة، التحديات الأصغر ظاهرًا، ولكنها الأعمق أثرًا على صناعة الأدب التي ترتبط قبل كل شيء بالجوانب الشخصية للكاتب. في مدينة دمشق، التي خرج منها وأقامت فيها مئات القامات الأدبية السورية والعربية عبر التاريخ، فعل الكتابة يصبح أقرب إلى التحدي. أحد أكثر الأفعال البشرية الفكرية، تقيد بأسخف التفاصيل المادية، وتصبح مسألة لا بد من تنظيمها وإيجاد حلولٍ مؤقتة ودائمة لها، خالية من العفوية الزمنية والظرفية التي لا بد أن تحيط بها.

لا أقلام ولا مفاتيح

قبل أزمة كيفية النظر إلى ما يحدث في سوريا وفهمه، يواجه الكاتب تحديًا أقل نقاشًا إعلاميًا، ولكن أكثر تسببًا في العجز عن الكتابة. في ظل الاستهداف الممنهج من شتى الأطراف للبنى التحتية في البلاد، كانت أحد النتائج انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة في معظم المناطق المأهولة بالسكان، ويصل هذا الانقطاع في المناطق الخاضعة للسيطرة الحكومية، ذات الوضع الخدمي الأفضل، إلى أكثر من ست عشرة ساعة يوميًا، لا حاسوب محمول يمكنه الصمود، والكتابة على الورق ليست خيارًا متاحًا لمن كان منزله غير مجهز بغير الشموع لمقاومة الظلام.

انقطاع التيار الكهربائي هو أحد أسباب أزمة الكتابة في سوريا!

إذاً التحدي ليس الوصول إلى الصيغة الأفضل أو الكلمات الأنسب المراد كتابتها، إنما في الحفاظ عليها، سواء في الذاكرة، أو على شكل ملاحظات مختصرة، لحين توفر وعاء مادي قادر على الاحتفاظ بهذه الكلمات. الحل الذي يلجأ له الكثيرون هو المقاهي، ولكن بدءًامن هذه النقطة يصبح الكاتب منفقًا على كتابته بدلاً من العكس، إذ تندر المقاهي التي تحافظ على تيار كهربائي وإنارة مستمرين طوال النهار، وقادرة على استيعاب الكاتب وساعات عمله الطويلة دون تكليفه في شهر ما يساوي أو يزيد عن العائد المادي من كتابته.

الحكي... مو ببلاش

إن كانت الكتابة في الحال العادية، وفي جميع الدول العربية تقريبًا، فعلًا غير مجدٍ ماليًا، فإنها تتطلب في سوريا جني المال قبل الكتابة، ليتمكن الكاتب من التفرغ لكتابته. قد تكون المنح وإقامات الكتابة حلًا ملائمًا، ينقذ الكاتب من جحيم الكتابة المتعثرة، ويبعده عن الحرب التي تشغل كل الإدراك غير تاركة مساحة لتأملاته. ولكن رغم تكاثر هذه المنح، فإنها نادرًا ما تستهدف الكتاب، وتركز أكثر على المشاريع المرئية كالفنون التشكيلية والسينما الأكثر قدرة على الانتشار ونشر اسم المؤسسة المانحة معها، وحتى المنح الموجهة للكتاب، تقوم غالبًا بقبول سوريين مقيمين في الخارج توفيرًا للتكلفة ومشاق السفر، وتوخيًا للحدود التي قد يلتزم فيها كاتب مقيم في بلد يقمع فيه الصراع أول ما يقمع مفرزات العقول والأقلام.

اقرأ/ي أيضًا: سجن تدمر.. سخرية انتهاكية

من ناحية أخرى، فإن العمل الذي قد يضطر الكاتب لممارسته في سبيل الحصول على المال اللازم لبعض التفرغ، غالباً لا يكون مجديًا، أو بالأحرى يحقق عكس هدفه ويستنزف عقل وجهد ووقت الكاتب بدلًا من إتاحتهما للكتابة، عشرات مشاريع الروايات والدواوين الشعرية والمجموعات القصصية تجهض يوميًا في سوريا، ويمنح وقتها وجهدها للعمل في الصحافة أو الترجمة أو أيًا كانت "منابع الاسترزاق" المتاحة للكاتب، والتي تكون أحيانًا أقل ارتباطًا بالكتابة، كالعمل في حانة أو مقهى أو "منضدًا" في مكتبة جامعية.

هاشتاغ سورية

الاهتمام يتزايد بسورية، وبالتالي بفنونها، ولكن هذا الاهتمام ما زال محصورًا بسورية الحرب، لا بسورية التي أظهرت على السطح آلاف المواهب بشكلٍ فجائي تقريبًا. هذا الاهتمام قد يغري الكاتب إلى التوجه نحو النشر الإلكتروني بدلًا من الورقي، ولا يكون الانتقال من مرتبة "كتاب ورقي" إلى "كتاب إلكتروني" أو "مدونة أدبية"، إنما "فيسبوكي" صغير، يكتب ما يكتب، يحصد ما يحصد من إعجابات ومشاركات، ويُنسى. لا نصوص قادرة على الاستمرار في الذاكرة أو على الأقل على رفوف المكتبات، لا قراء نوعيين كمن تجتذبهم الكتب الورقية، لا مؤسسات إعلامية أو ثقافية تمنح أي وزن لهذه المحاولات للحصول على الاهتمام، اللهم سوى بعض الحالات النادرة التي تكتسب أهميتها من التوثيق لا من فنية العمل المكتوب، كبعض الشخصيات التي جمعت منشوراتها على فيسبوك ونشرت مجموعة في كتاب بتمويل أوروبي أو شخصي غالبًا.

حالة النشر الإلكتروني، تحقق بالنسبة للكثيرين الحد الأدنى من الاهتمام الذي يحتاجه من يكتب كي يشعر بقيمة ما ينتج، ففي حين بالكاد تلتفت وسائل الإعلام المحلية لأي حركة أدبية خارج إطار اتحاد الكتاب العرب، فإن وسائل الإعلام العربية والأجنبية والسورية في الخارج تصب اهتمامها على المغتربين من الكتاب، نظرًا لسهولة الوصول إليهم وللحرية التي يتمتعون بها في التعبيرعن آرائهم.

حالة النشر الإلكتروني تحقق بالنسبة للكثيرين الحد الأدنى من الاهتمام الذي يحتاجونه

في الوقت نفسه لا يعني ذلك أن الملتزمين بالكتاب الورقي محصنون ضد تأثيرات الاهتمام المفاجئ والطويل نسبيًا بالشأن السوري، فمع صدور عدة روايات كتبت بعد سنة 2011 تعالج الأحداث الأخيرة في سورية، أصبح الكاتب السوري عند النشر ملزمًا معنويًا، لمجرد حمله هذه الجنسية، بالحديث عن بلده ولو رمزًا، مضطرًا لتأجيل – إن كان يأمل بالانتشار – كل مشاريعه غير المتعلقة بالحرب. وقد تكون هذه فرصة بالنسبة للبعض لتأمل مشاهداتهم والاستفادة منها في العمل التالي، ولكن في الوقت نفسه تشكل ضغطًا من القراء والمؤسسات على حد سواء، من حيث عدم قبول أو على الأقل انتشار أي عمل أدبي لا ينحى منحى الصحافة في اختيار أحد الأطراف ودعم وجهة نظره، أو في تقديم ما "يفش خلق" القراء السوريين على الأقل، وإن كان يعني ذلك التخلي عن الكثير من أحجار زاوية كل من الأدب والحقيقة.

فقد فعل الكتابة الحرية في الزمان والمكان، وببعض التساهل يفقد حتى حرية اختيار الموضوع وأسلوب المعالجة، الجميع يريد أن يقرأ عن كارثة السوريين، ذات الكارثة التي تمنعهم من كتابتها. حلقة مفرغة تحولت إليها الكتابة على خريطة العالم العربي بأسره.

اقرأ/ي أيضًا:

الصناعة السورية.. "ما ضل شي"
"تشبيح" المصرف المركزي السوري