02-ديسمبر-2018

ايزيديون من سنجار هاربون من داعش 2014 (رويترز)

دنا أبو سياف من الأسير وصاح بصوت مُرعب: اجثُ على ركبتيك!

جثا الرجل الهزيل على ركبتيه معصوب العينين، مقيّد اليدين والقدمين، يرتدي زيًا برتقاليًّا، محنيّ الرأس، كان يرتجف بجسده النحيل، لا شيء يحرّك صمت المكان سوى حركة أنفاسه، وهبوب الرياح الرملية التي تلطم بذراتها وجهه المصفرّ، يتردّد صراخ أبو سيّاف بإلحاح، آمرًا الطفل ذي الأحد عشر عامًا بقتل الأسير المقيّد.

التفت أبو سياف إلى الصبي وصرخ في وجهه: باسم خلافة الدولة الإسلامية أقم عليه الحدّ.. اقتله.. وإلا.. وإلا..

ينادي أحدهم من مسافة قريبة: أبو سيّاف أنا ذاهب الآن.. علّم ذاك الأخرق مهمّته، ولا أريد أن أسمعك تناديه چوكو بعد الآن، اسم هذا الفتى عدنان.. أسمعتني؟!

لفّ الداعشيّ بساعديه السمينتين خصر الطفل، وثنى ذراعه الغضة، ليحمل السلاح بالقوة، حاول الطفل أن يضغط على الزناد بسبابته الناعمة والطرية، لكن دون جدوى، كان يزفر خلف چوكو كتنين يكاد يلتهم جسد فريسته، صرخ في أذنه:

هيا يا عدنان اقتله وسأعتقك!

اقتله أيها الضعيف!

إنّه كافر لا يستحق الحياة.

حاول چوكو الهروب والإفلات من يديه، بكى والتفت يمينًا ويسارًا، مُغمضًا عينيه الزرقاوين ليتجنّب النظر إلى الضحية، وأخذ يتوسّل بنبرةٍ مرتعدةٍ رجّها الرعب:

أرجوك اتركني، لن أقتله، لن أقتله!

أرجوك اتركني، لا أستطيع، لا أستطيع..

حاول چوكو إبعاد ساعد أبو سيّاف الثقيلة عن نفسه، لكن دون جدوى:

ابتعد عني!

آه! ابتعد!

حمل أبو سيّاف چوكو بغضب وطوّح به أرضاً بعنف، تكوّر چوكو على نفسه وهو ملقى، ومكث يتحسّس كلّ أجزاء جسده محاولًا أن يخبئ نفسه بيديه الصغيرتين. قرّب أبو سيّاف وجهه الخشن منه وقال له حاملًا البندقية:

انظر أيّها الأحمق وتعلّم.

وجه أبو سيّاف البندقية إلى صدغ الأسير، وأطلق رصاصة تردّد صداها في الوادي، سقط الأسير على وجهه جثة هامدة، بعينين جاحظتين، وارتسمت بقعة دم تتسع ببطء على الرمال الكثيفة من حوله.

 تسمّر چوكو في مكانه، كان مذعورًا، خبأ رأسه بين ساقين مرتجفتين، كان يصدر أنينًا متتاليًا ودموعًا جافّة. بعد عدة أيام دخل أبو سيّاف إلى حجرة چوكو الصغيرة، تكور چوكو فجأة وعادت إليه حالة الفزع، نظر أبو سيّاف إليه بعينين تقدِحان شررًا. عدّل چوكو من جلسته إلى القرفصاء، شهق فجأة وكأنه يرى ذلك الرجل بصورة أكثر رعبًا، وضع چوكو كفّه الأيمن قبالة وجهه الحنطي تحسبًا من أن يتعرّض لأذية أو ضربة مباغتة.

وقف أبو سيّاف أمامه بقامته الطويلة ومنكبيه العريضين، تتدلّى عليهما عمامة سوداء، يقول بلهجة حادّة رافعًا سبابته في وجه چوكو:

ضعيف، أنت ولد ضعيف لا فائدة منك!

هل ما زلت خائفًا؟

اسمعني جيدًا، أريد منك أن تصير رجلًا، لذلك سأزوجك بسبية تعمل خادمة عند زوجتي، إنها إيزيدية تناسبك، اسمها سميّة عمرها عشر سنوات.

لم يبدُ على چوكو أنّه فهم كلام أبو سيّاف

كزُّ أبو سياف بأسنانه النافرة ممتعضًا وصرخ:

ألا تفهم ما أقول، سوف تصبح عريسًا أيها الأبله!

لم يستوعب چوكو سبب غضبه، أردف خائفًا:

لا أريد شيئًا، فقط ابتعد عني.  

ازداد حنق أبو سيّاف وعضّ ظفر إبهامه المجعّد وصرخ:

أغلق فمك وإلا قتلتك كذلك الأسير.  

جلس چوكو في مكانه ووضع يده على شفتيه الرقيقتين وكتم أنفاسه لثوانٍ دون أن ينطق بكلمة، خرج أبو سيّاف وعاد بعد لحظات، يدفع أمامه فتاة صغيرة إلى الداخل قائلًا: 

هه! خُذها لقد أصبحت زوجتك شرعًا.

وقف چوكو مندهشًا وبدت على عينيه الحيرة والتساؤل، فما الذي يتوجب عليه أن يفعله!

قال أبو سيّاف بصرامة:

هذه زوجتك سميّة أيّها الأحمق، أخبرتك من قبل، ألا تفهم؟

ألقى أبو سيّاف عليهما نظرة غاضبة وأخيرة وأدار ظهره وخرج متمتمًا.

كانت سميّة ترتدي عباءة داكنة تغطي كلّ جسمها، راحا يحدقان أحدهما في الآخر، كانا خائفين لا يدركان ما يحصل، جلسا في مكانهما بهدوء حذر، سقطت لعبة من جيب عباءة سمية الداخلية، نظر چوكو إليها بفضول وهرع ليحملها، التقطت لعبتها فورا وقالت منزعجة:

هذه لعبتي، لن أعطيكَ إياها.

ردّ چوكو بانفعال طفولي:

أنا أصلًا لا أحب ألعاب الفتيات.

بادلت سمية انفعاله بانفعال فنزعت عباءتها وغطاء رأسها، فظهرت قسمات وجهها المكسوّ بمسحوق البودرة بكثرة والذي لم يخفِ سمار بشرتها الغضّة، وأحمر الشفاه مرسوم على شفتيها كيفما اتفق، ردت بسخط:

هذه اللعبة الجميلة لي، أنت لا تملك ألعابًا مثلي.

مدّ رأسه نحوها ليغيظها قائلًا:

لديّ سيارة كبيرة في منزلنا في شنكال اشتراها لي أبي يا سميّة.

ترد سمية بهياج:

شنكال؟ أنتَ من شنكال؟

أنا اسمي سامو، لا أعرف لماذا غيّروا اسمي، لا أحب اسم سميّة.

حينها تفرّس چوكو في وجهها وقال مستاء:

تشبهين بهذه الألوان على وجهكِ زوجة أبو سيّاف الشريرة التي كانت تضربني.

لمست سامو وجهها مستغربة وقالت:

لا أعرف سبب كلّ هذا، لكنّهم أخبروني أنها من أجل عرسنا.

أردف چوكو قائلًا:

أين العرس؟

إنهم يكذبون..

تغيّرت ملامح سامو بابتسامة خفيفة وحائرة وقالت:

هل ستلعب معي؟

سأعطيك لعبتي. 

رد چوكو بحزن:

لا أريد شيئًا، أريد أبي وأمي.

ضغط چوكو بأصابعه على عينيه الزرقاويّن باكيًا ومردفًا:

أريد أن أعود إلى بيتنا.

أرخت سامو عينيها حزنًا، وبكت هي الأخرى بصوت عالٍ، ولجت زوجة أبو سيّاف إلى الغرفة فجأة وصرخت قائلة:

ما هذا الضجيج؟

أمسكت ياقتيهما وهزتهما بجنون وهي تتابع وتصيح:

أنتما متزوجان أيها الغبيان، اصمتا وإلا ربطتكما.

صمتا ذعرًا وانكمشا إلى جانب بعضهما في إحدى الزوايا. خرجت زوجة أبو سيّاف لتعمّ السكينة بعد خروجها.

بعد لحظات قصار همس چوكو لسامو قائلًا:

هل ستهربين معي؟

تهز رأسها كعلامة للموافقة.

تحقّقا من خلوّ البيت وخرجا بخطى هادئة كلّ منهما مشمّرًا ساقيه، مشيا مسافة طويلة وركضا من مكان الى آخر، كانا يلهثان بشدة وأنفاسهما تتلاحق والخوف يخنقهما، توقفا لدقائق في مكان مهجور، فجأة لاحظ چوكو ظلًا صغيرًا أمامه، تضاعف حجمه كلما اقترب، أدار رأسه الى الخلف ليرى رجلًا بدينًا لا يختلف في شكله الخارجي عن أبي سيّاف بلحية وشعر أحمر، تسمّر چوكو رهبة وتشبثت سامو به.

سأل الرجل بصوته الخشن:

هيه!

من أنتما؟ وإلى أين ستذهبان؟

تلعثم چوكو رعبًا وقال؟

أنا چوكو... و...

قاطعه الرجل وارتفعت حواجبه الكثّة، بضحكة واسعة وقال:

أهاااا! چوكو..!

إذا أنتما من شنكال، فهمت.. فهمت..

وضع يده الممتلئة بالنمش على كتفيهما ليخفّف توترهما وروعهما، مُظهرًا عطفه، أكمل قائلًا:

إلى أين ستذهبان يا صغيريَّ؟

هل بإمكاني مساعدتكما؟

ظهرت على شفتي چوكو ابتسامة خفيفة وأخبره بحماس:

نعم.. سنذهب إلى بيتنا

هل ستأتي معنا يا عم؟

سحب الرجل لعبة سامو من يدها فجأة. أخد اللعبة وغاب بعد أن طلب منهما الانتظار، عاد حاملًا اللعبة بخطى بطيئة وغير متوازنة، كان يترنح مخمورًا ويتحدّث بلسان ثقيل:

خذا اللعبة واذهبا بهذا الاتجاه.. لا تخافا، لن أسمح لأحد أن يلحق بكما..

أمسك چوكو اللعبة، لكن وزنها كان أثقل مما كانت، لاحظ چوكو ذلك دون أن يعير اهتمامًا.

لوّحا للرجل بالوداع ورحلا.

لم يردّ عليهما الرجل، وحالما ابتعدا، اهتز جسده بضحكة هيستيرية، كمن تلبسته نوبة جنون طارئ، صرخ ساخرًا:

ياللمساكين، ستنفجر بكما القنبلة، هاهاهاها.

أعاد كلام چوكو بصوته الغليظ مستهزئًا:

سنذهب إلى بيتنا هاهاهاها.

بالكاد غابت صورتهما عن ناظري الرجل حتى اهتزت الأرجاء بانفجار مدوٍ، وتحول المكان إلى أفق من غبار، تناثرت أشلاء الطفلين، انعكست صورة اللهيب البرتقالي في حدقتي الرجل. ثم عمّ صمت مخيف المكان، أعضاء متبعثرة تعلوها خيوط طفيفة من الدخان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

دنيا ميخائيل تدخل "في سوق السبايا"

مسافر قاسم.. دراما اليزيديات المسبيات