01-يونيو-2016

غرافيتي لـ دانتي في روما

ها هو عيد ميلاد دانتي يطلّ من جديد. مناسبةٌ تحتفل بها الجامعات الإيطالية كما لو أنّها عيدٌ وطنيّ. وكيف لا، فهذا اليوم شهد ولادة أبي اللغة الإيطالية وآدابها. بل بإمكاننا الجزم أنّ لولا عبقريّة هذا الرجل لتأخّر الكيان الإيطاليّ عن النشوء. جميع الأمم لديها كتابٌ يحفظ تراثها ولسانها، أمّا في حالة "الكوميديا الإلهية" فالأمر مختلفٌ كليًّا: هذا الكتاب هو الذي "صنع" لسان الأمة الإيطالية ومهّد لها السبيل كي تُنشئ تراثها. وسنحاول هنا تسليط الضوء، ما أمكننا، على آثار دانتي في نفوس بعض الأدباء، وذلك من خلال بضعة أمثلةٍ تبيّن عمق الصدى الدانتيّ في الأدب الإيطاليّ.

 "الكوميديا الإلهية" كتاب صنع لسان الأمة الإيطالية ومهّد لها السبيل كي تُنشئ تراثها

لابدّ لنا من البدء ببوكاتشو الذي كان من أوائل المحتفين بدانتي، ومن روّاد الأدباء الإيطاليين الذين ساروا على نهجه. جمع بوكاتشو أعمال دانتي وبدأ بدراستها وتدريسها، ثم اعتزل الكتابة باللاتينية الفصيحة ليتجه نحو تلك اللغة الوليدة؛ "اللاتينية العاميّة"، والتي ستصبح "الإيطالية الفصيحة" فيما بعد. وكان هو من أضاف صفة "الإلهية" على "الكوميديا" بمعنى أنّ هذا الكتاب لا يُعلى عليه بل بمثابة معجزة لغوية ليس بمقدور البشر أن يجيئوا بمثلها. ولأنّ "الكوميديا" تعني، بمعجم المسرح الإغريقيّ، الانتقال من التعاسة إلى السعادة، على عكس التراجيديا، فإنّ دانتي بدأ رحلته إلى العالم الآخر بالجحيم لتنتهي به في الفردوس. وعلى هذا الأساس، ألّف بوكاتشو رائعته "الديكامرون": بدأها بوصف الطاعون والكوارث التي حلّت بفلورنسا بسبب ذلك الداء المعدي، وأنهاها بنجاة الرواة العشرة من الإصابة به لأنهم اعتكفوا في الريف ليقصوّا الحكايات على بعضهم بعضًا. زد أنّ الحكايات التي قصّها بوكاتشو كانت مائة حكاية، مطابقًة بالعدد لأناشيد "الكوميديا".

اقرأ/ي أيضًا: 6 من أبرز المترجمين العرب الشباب

وقد نبرر تأثر بوكاتشو بالشاعر الأعظم دانتي لأنّهما عاشا في الحقبة ذاتها تقريبًا، لكننا نتلمس طيف دانتي عند شعراء الحداثة أيضًا. مونتالي، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1975، كان قد لجأ إلى صياغات دانتيّة في شعره، علمًا أنّه لم يكن معنيًا باستبشار المسّرة كما فعل دانتي. ففي إحدى قصائد ديوانه الأول "عظام الحبّار"، يستخدم مونتالي قافية دانتيّة لا لبس فيها. لماذا نشدد على هذه النقطة؟ لأنّ القافية بالنسبة إلى دانتي لها وظيفة أساسية في شعره. إضافة إلى أنها تحمل طاقة غنائية، فإنّ قوافي دانتي مفعمة بالطاقة الرمزية لأنها تربط مضامين كلمات مختلفة في شكل واحد أو يكاد. خذ مثلًا مطلع الجحيم (سنعتمد الترجمة العربية، لكننا سنكتب الكلمات المقفّاة بالإيطالية بين هلالين كي تتضح الفكرة): {في منتصف طريق "حياتنا"، وجدت نفسي في غابة "مظلمة"، إذ "ضللتُ" سواء السبيل/ آه، ما "أصعب" وصف هذه الغابة الموحشة الكثيفة "القاسية"، التي تجدد ذكراها لي "الخوف"!/ إنها شديدة المرارة حتى لا يكاد "الموت" يزيد عنها} 

يسعى دانتي من خلال القافية إلى ربط "الحياة" بـ"الضلال" (vita, smarrita) و"الخوف" بـ"الظلام" و"الصعوبة" (paura, oscura, dura) و"القسوة" بـ"الموت" (morte, forte). ونجد، في مواقع أخرى، أنّ لفظ الجلالة، "الله"، لا يأتي بقافية إلا مع لفظ الجلالة نفسه، ولا يرتبط إلا بـ"الله"، فهو المنزّه المترفع عن أيّ تشبيه. وبهذا، يسعى دانتي إلى تصوير المعنى الضمنيّ للكلمات من خلال شكلها المكتوب ولفظها المسموع؛ وبالتالي تتسمّ القافية لديه برنينٍ مزدوج: صوتيّ ورمزيّ. 

اقرأ/ي أيضًا: الكوميديا الإلهيّة.. تشويقة للمبتدئين

"الكوميديا الإلهية" رواية مغنّاة أكثر من كونها قصيدة سردية، أبطالها من أهل النار والنعيم

لم يلجأ مونتالي إلى أسلوب دانتي وحسب بل استعار منه قافية مهمة لها معنىً عميق، إذ يقول مونتالي: {الحكمة الأكثر صدقًا هي حكمة من يعرف كيف "يصمت"/ نشيد "السلام" هو النشيد الذي ينتحب}. الربط بين "الصمت" و"السلام" (pace, tace) كان قد ذكره دانتي في النشيد الأول من الجحيم (ولاحظْ أنّ مونتالي يستخدم "نشيد" "Canto" للدلالة على أناشيد دانتي): {...هكذا جعلني الوحش عدوُّ "السلام"، الذي دفعني – وهو يتقدم نحوي – إلى الوراء قليلاً قليلًا، حيث "تصمت" الشمس}.

لم يقتصر تأثير دانتي على الشعراء، بل تعدّاهم إلى الروائيين أيضًا الذين رأوا هذه القصيدة الطويلة على أنها حكاية في نهاية المطاف، حكاية طويلة لرحلة متخيلة، يروي فيها الشاعر ما يصادفه من أهوال، ويصف الأماكن بدقّة عالية ويقدّم الشخصيات التي يلتقي بها تقديمًا مفصلاً لملامحها ونفسيّتها وتاريخها. إنها رواية مغنّاة أكثر من كونها قصيدة سردية، أبطالها من أهل النار والنعيم، موتى يقصّون حكاياتهم على مسامع الشاعر كي يخلّد ذكراهم باستخدام الأدب الناتج عن مزج الحكمة بالبلاغة.

اقرأ/ي أيضًا:

لميس سعيدي.. العالم ليس تمامًا ما يبدو عليه

مرتضى كزار.. الرواية ضرب من التأريخ