11-سبتمبر-2016

خيري شلبي مع ابراهيم اصلان

الزحف إلى القاهرة وبداية الصعلكة

تبدو القاهرة لزائريها في البداية بأنها مدينة قاهرة بالفعل، وأن المرء إذا لم يكن قويًا خبيرًا بألاعيب أبنائها ديس تحت النعال غير مأسوف عليه، لذا دائمًا ما يكون استقبالها لزائريها استقبالًا فاترًا خاليًا من أي ود، إذ كيف تجد من الوقت والجهد ما يعينها على استقبال تلك الجموع القادمة والعائدة في ذات الوقت، وتتسم اللقاءات الأولى دائمًا بالصدام الذي يصل إلى حد نفور وتقزز كل منهما للآخر، والقارئ لـ"ثلاثية الأمالي" لخيري شلبي سيدرك ذلك جيدًا، إذ إن شخصية الرواية تطابقت ظروفها كثيرًا مع ظروف "خيري" نفسه، كأنه فيها يحكي تجربة مشابهة لتجربته المليئة بالتعب والمعاناة والسير في شوارع القاهرة كل يوم ممتهنًا مهنة جديدة، فوجدها قاهرة لأي كرامة وهاضمة لحق الضعفاء والمهمشين، وكي يحفظ مكانه بين هؤلاء لا بد وأن يخوض حربًا ضروسًا معها، إما أن ينتصر فيعيش كواحد من المهمشين والأوباش وما أكثرهم في القاهرة، أو يعود أدراجه من حيث أتى ويرفع رايته البيضاء.

انتصر خيري شلبي على قهر المدينة بالعيش فيها كمن يخوض حربًا

لكن "حسن أبو ضب" لم يرفعها، كذا لم يرفعها "خيري شلبي"، فيحكي عن صدامية اللقاء الأول بالقاهرة قائلًا: دخلت القاهرة من باب الخدم فلم أجرؤ على اقتحام الأماكن البراقة، كنت أجد الأنس والمودة في الحواري والمقاهي الشعبية حيث أجد أناسًا يشبهونني ولا يملكون نقودًا مثلي، أتعاطف معهم ويتعاطفون معي وكلما أتوغل في الحواري أكتشف نفسي وأهلي، أما إذا انتقلت للأماكن التي يرتادها الأفندية فأشعر بالغربة.

اقرأ/ي أيضًا: خيري شلبي.. في سكنى الحكاية (1- 2)

وَتَد الحكاية 

الحدوتة والحكايا مبدأ أصيل جدًا في الشخصية المصرية، وبلغ ولع الناس بها إلى حد جعل منها لغة تخاطب في حوارهم اليومي، فما نتحرج من الحديث عنه لأي سبب نختلق له حكاية يرافقها غمز ولمز على طريقة "إياك أعني فاسمعي يا جارة".

من هذا المنطلق بنى "خيري شلبي" عالمه الخاص القائم على بساطة الحكاية المفعمة بالخيال الجامح في الأسطورة الشعبية، فاستطاع أن يقترب من الطبقات المسحوقة تحت نعال المجتمع، وأن يطفو بالصعاليك والأوباش إلى قمة الهرم الاجتماعي يرسم بقلمه عالمهم المليء بالحكايات، ويصول بقارئه ويجول داخل سراديب هذا العالم الذي لا نعرف عنه سوى الاسم فقط، عن أناس دربوا أنفسهم على لعبة الاستغناء التي يعتاد فيها الجسد بالقوة الجبرية على ألا يطلب شيئًا على الاطلاق، فروايته "وكالة عطية" التي عدوها ملحمة العشق والحرمان والألم كانت أشبه بالقصر المسحور مغلق الأبواب وحالك الظلمة، تدخله فلا تلبث أن تنجذب بقوة لا تقاوم إلى عالمه السفلي الذي يمور بخيرات الفقراء والنصابين والصعاليك والمظلومين، شخصيات لا ندري كيف تعيش على اختلافها تحت سقف واحد ردحًا غير صغير من الزمن، تسكن جنبًا إلى جنب في نسيج واحد لا يكاد خيط منه ينفصل عن الآخر.

وبجانب حكايات "خيري شلبي" عن صعاليك القاهرة وأوباشها، استطاع أن ينقل تجربته التي احتلت وجدان القارئ بمجرد سماعها في شيء أشبه بالاستعمارالقادر على أن يمكنه من أن يعمل مبضعه في قارئه، ويقيم في داخله الجسور والسكك مفسحًا المجال أمام كلماته وعباراته التي سرعان ما تستحيل إلى شخوص حية، لأن كاتبها عندما أشاع فيها من روح قلمه لم يثقل كاهلها بالأدب العتيق الذي تخنقه العبارات الصعبة المعقدة والتي لا يستطيع إنقاذها فتكون كتابته في جسد ميت بلا روح، لذا أصبح للقرية حضور قوي في ذاكرة "شلبي" والتي تتماهى مع ذاكرة الزمن.

في كل عمل من أعماله عالم من البهجة والإثارة، هناك مدن مسحورة وأخرى واقعية، وحضور قوي لأناس لا حصر لهم من الصعاليك والأوباش والفلاحين، وفضاءات شاسعة تدور بها معارك طاحنة في دفقة من المشاعر الإنسانية المتجددة، وهناك حكم وأمثال كالآلئ في أصداف من الحكايات الشائعة الجذابة، بها ينزاح الستر عن الحقائق المتخفية حتى تجعل زلزال الصدام لدى القارئ يوشك أن ينفجر، لكن سرعان ما يفرغك من مشاعر الخوف والاضطراب والقلق، كي تنخرط في تلك الحكايا مفتونًا بما فيها من عبقرية خالية من حشد المثاليات والتضحيات والعذابات المغذاة بأسانيد من اللغة المعقدة والمأثورات اللماعة.

خيري شلبي: الخيال خبرة بالتفاصيل وبكيفية استخدامها ضمن نسيج كلي

يقول صاحبنا: الخيال لا يعني تأليف شيء من العدم أو تخيل عالم بأكمله من الفراغ، إنما الخيال هو عمق الإحساس بالتجربة المعيشة سواء عاشها المرء بنفسه أو عايشها عن كثب، إن الخيال خبرة بالتفاصيل وبكيفية استخدامها ضمن نسيج كلي. وخيري شلبي فلاح ابن فلاح، فهم ووعى تفاصيل الحياة في القرية جيدًا، فحفلت رواياته بروائح الروث والزهور وحرارة تشعر بها بين صفحات الكتاب لتعرضها لشمس الظهيرة التي تصب أشعتها على الحقول التي يكتب عنها، ليفاجئك بالمأوى الذي تجد فيه الفيء بعد رحلة طويلة تحت قيظ الشمس، فكأنه بذلك قد رسم الريف على ورقة بيضاء بقلم رصاص فاهٍ فكوّن صورةً بديعة بلا نزاع، الأمر الذي دفع "نجيب محفوظ  أن يقول عندما سألوه عن عدم كتابته عن الريف فرد: كيف أكتب ولدينا خيري شلبي؟

اقرأ/ي أيضًا: ندب الحسين ومرثية تموز التي لا تموت

القرية التي كتب عنها "خيري شلبي" مختلفة عن تلك التي قدّمها "يوسف إدريس" و "عبد الرحمن الشرقاوي"،  فكما يرى "خيري شلبي" أنهما قدّما القرية المصرية من وجهة نظر بورجوازية، أما هو فكتب من مكان آخر بحكم تجربة الطفولة، والتراجع الطبقي لأسرته، واضطراره للعمل مع عمال التراحيل، وتنقّله بين مهن مختلفة، من الخياطة والحدادة إلى النجارة كلّ ذلك جعله يقدم قرية القاع، قرية الفلاح المعدم الذي يعتمد فيه على الحنين إلى الأربعينيات.

كل هذا جعل أدب "خيري شلبي" أشبه بالخساية العريضة النافشة الأوراق، ومرة بعد مرة يتم نزع تلك الأوراق العريضة الشائخة منها، حتى يبقى من الخساية قلبها الأبيض الندي بأوراقه البرعمية كأنه شفرة الحياة وسرها الدفين، فيمسك بهذا القلب كأنه المغزى من الحكاية، ثم يبدأ حكاية جديدة يتجلى فيها عازفًا على أوتار النفس مصدرًا لحنًا عذبًا تطرب له القلوب، هكذا كان خيري شلبي الحكواتي السريح والمجنون المتشرد.

المصادر:

1- أنس الحبايب: خيري شلبي

2- العراوي: خيري شلبي

3- أبي الذي لم يعرفه أحد: ريم خيري

اقرأ/ي أيضًا:

هل استطاع مارتن لوثر كينج تحقيق حلم حياته؟

الخيّر شوّار.. يبدع "خارج مجال التغطية"