06-فبراير-2018

مهد رضيع على الحدود السورية - التركية

صورة رقم 1

قبل سنواتٍ بعيدة، في الربيع، لا أذكر بالضبط العام، ولكن من المؤكّد أنّه كان في العصر الحديث، زرتُ عفرين، المدينة التي كان أبناؤها ضدّ الموت في كل الأزمنة، حضرنا آنذاك مهرجانًا شعريًّا ينظّمه الطلبة الكرد في جامعة حلب. برفقة الأصدقاء رأينا العشب الأخضر يغطّي المكان، رأيتُ سكَّةً حديديَّة كذلك، ولقينا حجرًا ضخمًا اقتعدناه كي نتأمّل بعضنا البعض عبر اللون الأخضر، بعيدًا عن المباني العالية في حلب الضبابيَّة آنذاك وفي كلّ الفصول، وصولًا إلى فصل الحرب. سخرنا جدًّا من كتاباتنا، أصوات الضحكات عَلَت حتّى وصلت إلى الطرف التركيّ، وعلى مرمى حجرٍ كان الأمن السوري (مدنيًّا) برؤوسهم المحشوّةِ نظرياتٍ عن التآمر الكرديّ على سوريا الأسد! يتربّصون بهؤلاء الكرد الوحوش! من المؤكّد أن أحد الأصدقاء قد احتفظ برسومٍ لنا، لكنّها على الأرجح ضاعت، كما ضاع السوريَّون في بلدان اللجوء.

صورة رقم 2

من المحتمل جدًّا، أن تكون الكتابة، أي كتابة بغير لحظتها، فاشلة، لكن الذكريات تحومُ الآن كطيفٍ، أرى ما لا يمكن لنبيٍّ أن يراه، الرسومُ الغائرة في القِدَم وهي تلوّح من بعيد، لكن، مهلًا، البساطةُ الهائلة في حجم تلك الذكريات تجبر المرء على أن يتوقّف للحظاتٍ ومن ثمّ يتنفّس الصعداء لأنّ هذه الصور لا تزال موجودة في مكانٍ ما من الدماغ، وبالتحديد في المكان المخصَّص للذكريات، الآن، 2018، هل تبدو الصورُ هي ذاتها؟، قطعًا، كلا، ولكن ازدادت بريقًا، حيثُ كل شيءٍ عتيق سرمديّ.

الصورة رقم (1) لها وشائجُ عميقة مع الصورة الحاليَّة، حيث صديقي، الذي كان يدرس اللغة العربية وآدابها، وهو كرديّ مقيم في السويد الآن، حيثُ الثلجُ والبرد والاندماج، كان يمتطي حمارًا مسكينًا، هزيلًا، وبيده عصا طويلة، مناديًا: يا لثاراتِ كُليب!

صورة رقم 3

فاجأتني صديقةُ الدراسة المقيمة في ألمانيا، بصورةٍ عتيقة، ثلّة من الشعراء الشباب، (مع كرهي لهذا المصطلح)، يرتدون ألبسةً كانت وقتذاك موضةً دارجة، رأيت كم أنني هزيل، عيناي ساهيتان عن كل شيء، حذفت الصورة هربًا من بشاعتها، لكن بقيت الملامحُ هي ذاتها في مخيّلتي، حيثُ أنا المقيم في الداخل، ولا شيء يمكن له أن يسعدَني سوى الأطفال، أو ربمّا خبر الانتصارات يومًا إثر يوم، لذا فالصورةُ تبقى أمرًا زائدًا عن حاجتي اليوميَّة للسعادة!

صورة رقم 4

رأيت شاعرًا من عفرين في بيروت خلال فترة إقامتي القصيرة هناك، أبصرتُه واستدلّيت على أنه هو ذاته صديقي في الفيسبوك، الصورة واضحة، كان جالسًا في مقهى بشارع الحمراء، وسط العاصمة، على الرصيف (عادةٌ يبرعُ فيها الكردُ دومًا)، لا أعلم بمَ كان يفكّر، وقفت قرابة نصف ساعة وأنا أترقّبه، كان شاردًا في الطاولة، ويحتسي القهوة، تذكّرتُ الصورة رقم (1)، لكن المكان مختلف كليًّا، حيثُ لا شيء سوى الفاتنات المصطنعات، والجرائد المرتّبة بأناقةٍ مبالَغٍ فيها على عواميدَ حديدٍ في الأكشاك الصغيرة على جوانب الأرصفة كلها، لا عشبَ ولا ذاكرة ولا ثأر، ولا كليب حتّى!

صورة رقم 5

كتب أبي ذات مرّة على ورقةٍ لا أزال احتفظ بها: "زرنا عفرين"، فقط، هذه الجملة، دون تأريخٍ أو توقيت محّدد بعينه، ربمّا الجينات الوراثيَّة تفعل سحرها، وأنا زرتُ عفرين ونسيتُ متى، لن أستنطق أحدًا لأعرف منه التاريخ، لا يهمّ!

الآن في هذه الأوقات، عفرين، المدينة ذاتها، والعشبُ ذاته، والسكّة ذاتها، والثأر ذاته، كلّ هذه العناصر يقصفها شبحٌ علنًا.

صورة رقم 6

كلّ الصور الفائتة، ساهم مقاتلٌ كرديّ في أن يعيدها إلى ذهني، مُسَلْسَلَةً بترتيبٍ عجيب، ربما قلّلت الكتابةُ من بريق ذاك التسلسل! ففي الحكايات الخياليَّة يكون الأبطالُ غير مرئيين، لكن في عفرين توضّح الأمر، والصورُ توضّحت، أنا في مكتبي الآن، أراقبُ ما يجري عبر أصدقاءٍ/رفاق، ينقلونَ لي صورًا، صورٌ أضيفها إلى ما في حقيبتي الداخليَّة من صورٍ، صورٌ تلي صورًا.

صورة رقم 7

غابَ كل شيء، وحضر في اللحظةِ عينها، وأنا أقلّب صفحات الإنترنت، مقاتلونَ بنظراتٍ شرِسة، وامرأة تعبّئ صمتهم بالزغاريدِ العشوائيَّة!، هذا كلّ ما في الأمر، زغاريدُ عشوائيَّة أفضلُ من قصف الآخر العشوائيّ (أقولُ في سرّي للجدار)، دون انتظامٍ تُزغرد المرأةُ كلّما لاحَ الدخانُ الأسودُ إثر تفجير عربةٍ عسكريَّة، نتذكّر حينها، من كان في تلكَ العربة، له أطفالهُ وذكرياته، وملابسهُ القديمة التي استبدلها بأُخرى جديدة، ومنشفة وفرشاةُ أسنانٍ كذلك، لكنّه قادَ نفسهُ بنفسهِ إلى هذا الحتف، الإثمُ إثمهُ بكل تأكيد، دفعتهُ الحربُ إلينا فأُردي قتيلًا وهو لا يزال على أرضه يفكّرُ في عرسٍ مقامٍ نهاية حيّ طفولته

صورة رقم 8

لم يتبقّ لأحدٍ أن يتفوّه: "الصور تخون" أو ربمّا: "صورٌ، صور وتبقى صورًا"، كل الأمر واضحٌ هذه الهنيهة، بصورٍ أو بدون صور، الأمرُ واضح، جحافل الكراهية وصلت إلى أمام عتبات البيوتِ الطينيَّة الفقيرة، احرِقوا صورَكُم في الذاكرة أو على الورقِ المقوّى، أتلفوها الآن، الآن على الفور.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سيارة إسعاف مبحوحة الصافرة في قتامة القيامة

رحّالة مُثْقَل بحِمل العدم