03-أبريل-2023
جنود لبنانيون يشاهدون كأس العالم  (Getty)

(Getty) جنود لبنانيون يشاهدون كأس العالم 1982

1990

ولدت عام 1982. تقول لي والدتي إن أبي كان في بيروت حينها. الحرب كانت في أوجها. والبلد على كف عفريت بعد أحداث حماة. سألتها والحرب الآن؟ أجابت: "هل تقصد الانتفاضة أم غزو صدام للكويت؟ هي ليست بعيدة عن هنا".

- "لماذا إذًا يضع أبي الشريط اللاصق الاسفنجي على حواف الشبابيك والأبواب؟".

- "نخاف أن تطلق إسرائيل أو صدام صاروخًا كيماويًّا على سوريا ونموت جميعا من الغازات".

- "لماذا يريدون قتلنا؟".

- "لماذا تسألني كل هذه الأسئلة؟ هم سفلة فقط هذا ما أعرفه".

- "لماذا تتكلمين بصوت منخفض هكذا؟".

- "لأن الحديث في السياسة ممنوع يا حبيبي".

- "أعرف ذلك. الجميع يقولون هذا، لكن لا أحد يتوقف عن الحديث في المدرسة، وعند الجزار أبي سمير، وفي المكتبة أيضًا سمعتهم يتحدثون عن ملك الأردن، قالوا إنه خائن".

- "ما رأيك أن تخرس وتضع حذاء في فمك؟ هل تريد أن أموت حزنًا عليك؟ لا تتحدث في الملعونة بنت الملعون السياسة".

عندما وُقع اتفاق أوسلو، قال لنا المعلم: : "فلسطين راحت.. دم الشهداء راح.. بيوتكن وبيوت أجدادكم راحت.. أبو عمار باعنا، تفو على عيشتنا والله لنشوف الذل ألوان. يا حسرتي عليكم"

أوسلو 1993

كنت جالسًا في المقعد الأخير في الصف وأرى الأستاذ يستمع إلى الراديو والأخبار الواردة عن اتفاق أوسلو، بينما بقية الطلاب يرسمون موضوع اليوم عن الانتفاضة. كان الأستاذ قد علّمنا في وقت سابق كيف نرسم إشارة النصر ويدًا تقبض على حجر، ووجه فدائي ملثمًا بكوفية وقبة الصخرة. وبينما نحن نرسم فجأة وقف الأستاذ غاضبًا ورمى بعلبة أقلام التلوين المعدنية بالأرض، وقام بشتم ياسر عرفات ووصفه بالخائن. وذهب الى النافذة وفتحها وأشعل سيجارة وقال لنا: "فلسطين راحت.. دم الشهداء راح.. بيوتكن وبيوت أجدادكم راحت.. أبو عمار باعنا، تفو على عيشتنا والله لنشوف الذل ألوان. يا حسرتي عليكم".

البلوغ

كان جدي يبكي بحرقة وهو يشاهد البوارج البحرية الأمريكية تضرب العراق في عملية ثعلب الصحراء التي شنتها بريطانيا والولايات المتحدة. نهض جدي وأغلق التلفاز وهو يشتم العروبة والعرب واصفًا إياهم بالخونة. كنا نجلس على شرفة بيت جدي الكبيرة المطلة على دمشق من قاسيون، صرخ جدي بصوت تردد صداه بعيدًا بين المنازل المترامية على السفح: "وبعدين يا الله". وساد الصمت المكان باستثناء أصوات الأخبار القادمة من تلفزيونات الجيران. بعد قليل سألته أختي: "ونحن يا جدي هل سيقصفوننا؟"، فأجابها غاضبًا: "يومًا ما سوف يقصفونكم.. يومًا ما سوف يقصفكم جيش ما يا صغيرتي، لا تستعجلي قدرك".

بعدها بـ25 عامًا أخبرتني أختي هذه القصة ونحن نختبئ في قبو أثناء قصف جيش النظام للمخيم.

المخيم

كان جارنا فتحي عضوًا في رابطة العمل الشيوعي في سوريا. خرج من سجن تدمر بعد 10 أعوام على اعتقاله، أذكر تمامًا أنه خرج في اليوم الذي اغتالت فيه اسرائيل أبو علي مصطفى، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية. كنا مجموعة من الشباب المراهقين، نقف في أول الحي، حين مر بنا فتحي وطلب منا أن ندخل منزله للتحدث بالسياسة بدلًا من التحدث في الشارع. كانت والدته تعيش في هذا المنزل مع أخيه قبل أن تموت حزنًا على أخيه الذي توفي بحادث سير على طريق المطار أثناء عودته من العمل في ترميم مدرسة المخابرات العامة في منطقة نجها. كنت أعرف أمه جيدًا كان صوت تلفازها العالي مميزًا، تستمع إلى نشرات الأخبار وتشتري الصحف المحلية لعلها تسمع عن عفو رئاسي يعيد ابنها إليها.

قال لي صديقي: "لماذا دخلنا إلى هنا؟ ستجلب لنا المشاكل". قاطعنا فتحي: "صديقك محق، اخرجوا قبل أن يراكم عواينية الحي. لقد فقدت شعري وأنا نصف الآن مجنون، لقد عذبوني كما لو أنني لا شيء، انتهكوا كرامتي، أذلوني. إنهم لا يرحمون أبدًا، يا إلهي لماذا أخبركم بذلك". سألته: "هل يضعون السجناء في براميل أسيد؟". تقدم باتجاهي وأجاب بغضب شديد: "سجناء شو؟ اخرجوا يا حمقى".

توفي فتحي في مدينة درعا أثناء عودته من حضور حفل تأبين ياسر عرفات في مخيم درعا.

العراق

رسبت في البكالوريا عام 2003. صدرت النتائج في الوقت ذاته الذي كان المخيم يستقبل شهداءه من الشباب الفلسطينيين الذين ذهبوا للقتال في العراق. قبل الامتحان بشهر تقريبًا طرق باب منزلنا صديقي فهد ورفاقه من حركتي فتح والجهاد الإسلامي. أيقظتني والدتي وأدخلتهم جميعًا إلى غرفتي بعد أن ألح فهد بأنه أمر ضروري للغاية. جلس أربعتهم على الكنبة القديمة بجانب فراشي وصمتنا جميعًا. يدا أمي مبللتان بماء غسيل الصحون، وهي لا تزال تقف عند باب غرفتي تنتظر سماع ما يريدون قوله. سألت فهد وأنا أحاول أن أعي ما يحدث حولي:

- "خير يا طير شو جابكم هيك؟".

ـ "اتركينا شوي خالتي بعد اذنك فش اشي جاييله أسئلة توقعات فلسفة ضرورية، بحكوا إنه تهربت الأسئلة.

أخرج من جيبه مجموعة أوراق".

لكن أمي لم تغادر، وطلبت منه أن لا يتذاكى وأن يدخل في الموضوع مباشرة، نظر إلى رفاقه وطلب من الشيخ أحمد أن يتكلم فوقف أحمد وقال لأمي:

"نحن يا خالتي بدنا نطلع على العراق نجاهد وبدنا ابنك يروح معنا شايفة الوضع كيف. نحن طالعين لحالنا الحركة مالها علاقة. بعرف مش راح ترضي بس هو بالغ عاقل".

- "انتوا يا خالتي فش وراكوا أهل؟ قوموا اطلعوا من هون من شان الله مش ناقصين، شو هالهبل".

- "شوف فش معانا وقت السيارة جاي بعد بكرا إذا بدك تطلع أعطيني صورة عن هويتك".

- "ممنوع تحكي ولا كلمة زيادة يلا يا خالتي الله معكم".

غادروا جميعًا على الفور بعد أن أخبرتهم انه ليس لدي هوية، فأنا متخلف عن الخدمة العسكرية منذ عامين.

مساءً، اتصلت بأحمد وذهبت كي أودعهم لكنهم رفضوا، باستثناء فهد الذي ودعني وهو يوصيني أن التحق بهم، وأعطاني رقم الرجل المسؤول واسمه نضال، الذي شاركني في حمل جثمان فهد ورفاقه ووسط هتافات التشييع، قال لي نضال: "اسمع. حكالي الله يرحمه عنك إذا بدك تطلع تعال المسا على قهوة وجيب يلي بتعرفهم بدهم يطلعوا".

قبل أيام حُكم بالسجن المؤبد على نضال في برلين بتهمة ارتكابه جرائم حرب ضد المدنيين في مخيم اليرموك أثناء الحرب في عام 2015.

قال صاحب البيت: "أقسم بحياة بناتي أنني منذ أن اشتريت هذا المنزل وأنا أؤجره فقط لضحايا الحروب. قبل شهرين ترك عراقي وأسرته المنزل وعادوا إلى العراق، واليوم لبناني، وغدًا تحدث حربٌ بين إيران وتركيا ويأتينا الأتراك"

المونديال

كانت المرة الأولى في حياتي التي التقي بها فلسطينيين من لبنان في 2006 خلال حرب تموز/يوليو، كان سامي وعائلته المكونة من 6 أفراد بحاجة إلى مأوى بعد أن فروا من جحيم القصف الإسرائيلي إلى دمشق وأتوا إلى مخيم اليرموك، حيث أقام أهالي المخيم معسكرات استضافة في مدارس وكالة الأونروا، كان الطقس حارًا جدًا ورفضت والدتي أن يسكن سامي وعائلته في غرفتي المنفصلة نوعًا ما عن بيتنا. وخرجنا أنا وأمي مساء نبحث عن شقة للإيجار لشهر واحد من أجلهم وقضينا النهار كله حتى وجدنا لهم غرفتين في الطابق الرابع. أخرجت أمي مبلغًا وقالت لصاحب المنزل الملقب بعدنان السكرجي: "اسمع ليس معي سوى ثلثي المبلغ الآن، أنا لا أعرفهم لكنهم فروا من الحرب وأنا أساعدهم، هم فلسطينيون أيضًا، دعنا نتعاون لا تنسَ أنني سوف اتكفل بإطعامهم أيضًا".

نظر الي صاحب السكرجي وقال: "أقسم بحياة بناتي أنني منذ أن اشتريت هذا المنزل وأنا أؤجره فقط لضحايا الحروب. قبل شهرين ترك عراقي وأسرته المنزل وعادوا إلى العراق، واليوم لبناني، وغدًا تحدث حربٌ بين إيران وتركيا ويأتينا الأتراك. أمري لله وافقت".

سألته: "لماذا ستحدث حرب بين إيران وتركيا؟".

قال لي: "هل تعلم لماذا ستفوز إيطاليا بكأس العالم؟ لأنها فازت به آخر مرة في عام 1982، وكانت هناك حرب بين إيران والعراق، وأيضًا كانت هناك حرب في لبنان، وبابا الفاتيكان كان ألمانيًّا واليوم يوجد حرب في لبنان وتم تعيين بابا فاتيكان ألماني، بقي أن تهجم إيران على دولة جارة، لذلك أنا أعتقد أن إيطاليا ستفوز بهذه الكأس".

ضحكنا جميعًا قبل أن نغادر بعد قصف طائرات ميغ النظام للمخيم في آخر 2012 ولجأنا إلى لبنان. في الطريق الطويل من دمشق إلى بيروت تذكرت صاحب المنزل ونبوءته. لقد فازت إيطاليا حقًّا حينها بكأس العالم. لقد ولدتُ في نفس العام. أربعون عامًا عمري على سطح هذا الكوكب، في الشرق الأوسط ثمانية حروب، آلاف الصواريخ والقذائف، احتلال إسرائيلي، احتلال أمريكي، أنظمة دكتاتورية، انتفاضات شعبية، اغتيالات سياسية، حوالي 3 مليون قتيل ومفقود، 30 مليون لاجئ، 35 مخيم، مليون معتقل وأكثر، سجون وأفرع أمنية وأحزاب وفصائل وميليشيات وكتل ودعويين ودعويات.

أحصيت أشياء ونسيت أشياء أخرى، وحاولت أن أعي تسلسل ما حدثَ حينها بالتزامن مع نبوءته، وماذا حدث بعد أن فازت إيطاليا بكأس العالم 1982.. فماذا حدث؟ ماذا حدث؟