06-أكتوبر-2021

زوجان يخوضان في مياه فيضان في السودان (Getty)

داهمتني ليلة شتاء معادية في مدينة بعيدة، واضطرتني إلى المبيت في بيت شاب أعرفه بالكاد، ولكن "الكاد" هذه كانت كافية لتشجعه على دعوتي ولتبرر لي القبول.

كان بيتًا صغيرًا ومتقشفًا بسقف منخفض بدا متوعدًا بالإطباق في أي لحظة، وغرفتين ضيقتين يفصل بينهما ممر معتم، وقد أُلحقت بهما، من الخلف، غرفتان من البلوك العاري لتكونا مطبخًا وحمامًا.

أنا مسؤول عن مصير هذين الشابين المجمدين في الصورة، فهما لا يعرفان ماذا سيحل بهما، وكيف ستنتهي الحكاية، أما أنا فكنت أعرف

كان أبوا مضيفي في استقبالنا. عجوزان لم تتيسر معرفة شعورهما إزاء هذا الضيف الطارئ. الأب سبعيني بلا أسنان وبعينين دامعتين وشفتين مرتعشتين، وكان قد نجا من جلطة قلبية وأخرى دماغية، غير أنه بدا غير سعيد بهذه النجاة التي، نكاية به، تكررت مرتين. أما الأم فهي في أواخر العقد السادس، تعاني من البدانة والروماتيزم، دون أن يكون هذان أكبر همومها، إذ بدت سابحة، بذهول تام، في عالم سديمي، تكرر السؤال نفسه مرات ومرات بلا أدنى اكتراث في الإصغاء إلى أي إجابة، مع تمتمات وهمهمات دائمة غير مفهومة، ربما كانت تعاويذها الخاصة لطرد الشياطين المحومة فوق رأسها..

اقرأ/ي أيضًا: سرّ أبي

كانا، كما فهمت من سهرتي القصيرة الحزينة معهما، بلا إنجاز يذكر، مع سجل ثقيل من الخسائر الفادحة. لقد زوجا فتاتيهما إلى شابين مهاجرين، وفقدا ابنًا قُتل في ساحة معركة، وآخر غرق في أحد بحار الهجرة. أما ابنهما المتبقي، مضيفي، فهو عاطل عن العمل ومضرب عن الزواج وعن الحياة برمتها..

قادني الشاب إلى الغرفة الأخرى حيث سأنام. كنبة صغيرة وسرير علقت فوقه صورة.. صورة لعروسين سعيدين.. شاب وسيم يشبه مصطفى فهمي (أو علي جابر)، وفتاة جميلة تشبه هالة شوكت في شبابها. كانت تطوق عنقه بذراعيها، ناظرة إليه بشغف أول الحب، وفقط طرف عينها اليمنى كان يلحظ الكاميرا، أما هو فكان يصوب إلى ما فوق الكاميرا، إلى الأفق، نظرة واثقة متحدية متباهية..

دق قلبي بسرعة. معقول؟! أجل إنهما العجوزان اللذان تركتهما للتو في الغرفة الأخرى. فأي طرق وعرة سلكاها من الصورة إلى مآلهما المعتم هنا؟!

قال لها شاب الصورة: أحبك وقررت أن أعيش بقية حياتي معك، وسوف تكون أيامنا القادمة سعيدة. ردت فتاة الصورة: وأنا أحبك أيضًا وأوافق على الارتباط بك إلى الأبد.

قال: أنا معلم مدرسة ولكنني أيضًا مناضل ملتزم بالمساهمة في تغيير العالم. قالت: رائع وأرجو أن تسمح لي بالمساهمة في تغيير العالم أيضًا. قال: أريد أولادًا، الكثير من الأولاد، وسيكونون عظماء نفخر بهم. قالت: موافقة شريطة أن لا تسميهم أسماء مضحكة من تلك التي يطلقها المناضلون على أولادهم. قال: أنا لا أملك بيتًا الآن ولكنني أعدك بأن نبني معًا واحدًا هو الأجمل والأوسع. قالت: وسوف أرتبه وأنظفه وأملأه بالورود والتحف.

لم أنم ليلتها، فعلًا لا مجازًا لم يغمض لي جفن، شعرت بأنني مسؤول عن مصير هذين الشابين المجمدين في الصورة، فهما لا يعرفان ماذا سيحل بهما، وكيف ستنتهي الحكاية، أما أنا فكنت أعرف.

يا للمسكينين، فهما يجهلان أنهما لن يستطيعا تغيير حتى بيتهما، وأنه لن يتبقى لهما من الأولاد العظماء إلا واحد يائس لا يعرف ماذا يصنع بحياته، وأن سعادتهما المنتظرة سوف تتكلل بجلطتين وزهايمر مبكر..

يا للمسكينين، فهما يجهلان أنهما لن يستطيعا تغيير حتى بيتهما، وأنه لن يتبقى لهما من الأولاد العظماء إلا واحد يائس لا يعرف ماذا يصنع بحياته!

وبسبب الأرق والانفعال، راحت الحدود بين الواقع والخيال تتلاشى، فأردت أن أقتحم الصورة لأفك ذراعيها من حول عنقه مخبرًا إياها بألا تخاف فهو لن يطير منها، ولكنه كذلك لن يطير بها.. وأقول له أن يخفف من اطمئنانه وأن ينزع عن وجهه هذه الابتسامة المتباهية، فالأمور لن تكون كما يتوهم.. وأقول لهما أن يهربا من قدرهما الآن وفورًا، فليهاجر هو إلى أقصى مكان ممكن، وأن تتزوج هي من آخر أقل أوهامًا، أو لا تتزوج بالمرة..

اقرأ/ي أيضًا: أبي الحاضر الغائب.. أبي الغائب الحاضر

ولكن شيئًا من الحس الواقعي كان لا يزال هنا وأخبرني أن الوقت قد فات، فها هو شخير العجوزين يكاد أن يصدّع المكان..

في الصباح وعلى فنجان القهوة، قلت لهما، وكأنها مجرد ملاحظة عابرة، أن صورتهما المعلقة هناك حلوة. أشاح الرجل بيده دون مبالاة، وقالت المرأة: فعلًا هذا اليوم بارد جدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العثور على سوري في سوريا

مملكة هذا العالم