24-أغسطس-2021

(Getty Images)

منى عوض (Mona Awad) كاتبة كندية من أصل مصري، صدرت لها سنة 2016 روايتها الأولى "ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى فتاة بدينة" (13 Ways of Looking at a Fat Girl) ثم رواية "أرنوب" (Bunny) سنة 2020، وأخيرا في آب/أغسطس من العام الحالي رواية ALL’S WELL. والمقالة التالية منشورة في مجلة فوج بتاريخ 15 حزيران/يونيو 2021. 


يقول لي أبي على الهاتف إنه راحل إلى  مصر. زيارة لمدة شهر، "وربما أكثر" حسبما يقول، "بحسب الظروف".

يفاجئني الأمر، وفي الوقت نفسه لا يفاجئني. لم أره منذ بدء الوباء. فهو يعيش في كندا التي أغلقت حدودها مبكِّرا. وكنت أخطط لزيارة كندا في نهاية المطاف مع تخفيف الضوابط في الصيف. كنت بحاجة إلى رؤيته. فقد عانى كثيرا على مدار العام الماضي، من مصاعب مالية، ومشارفة ابن أحد أصدقاء العائلة على الموت، ومن تعرضه هو نفسه للإصابة بعدوى كوفيد. وكان قبل شهر واحد من الوباء قد باع مشروعه، وهو مقهى صغير، فوجد نفسه ضائعا في أيام بلا ملامح. وصارت مكالماتي معه، واحدة بعد الأخرى، أشبه أشبه بريِّ نبتة آخذة في الذبول.

أوضح له قائلة "لكنك لم تتلق إلا جرعة واحدة من اللقاح" مدركة أن الجرعة الثانية لن تتاح إلا بعد شهور وفقا للجدول النموذجي في كندا. "ألن يكون في هذا...؟"

يقاطعني قائلا  "لا بد أن أذهب. وسأكون بخير". أقول في نفسي ربما. لكن لا يجدر بشخص في السبعين وعنده متاعب صحية أن يعرض نفسه لهذه المخاطرة.

"لا بد أن أفعل شيئا. لا يمكن أن أكتفي بالجلوس هنا". يقول لي إنه راغب في تبرئة اسمه من بعض الأمور القضائية القديمة. ويقول إنه ذاهب أيضا لعمل بعض الأعمال الفندقية. يقول "سترين ما يحدث". كففت منذ زمن بعيد عن محاولة معرفة التفاصيل. فوسط حاجز اللغة، ومراوغات أبي البينزنطية، واحتياجه ربما إلى حمايتي، سرعان ما فقدت قدرتي على الإيمان بقصصه والاطمئنان إليها. أمَّا عزمه على الابتعاد فأمر أعرفه تمام المعرفة. لأنه فعله وظل يفعله طوال حياتي.

كنت في السابعة حينما قالت لي أمي ذات ليلة "أبوك سيسافر". أتذكر أنها كانت ترتدي قفطانا مصريا يبرز بشرتها الفاتحة، وأساورها وحليها الذهبية المتدلية من معصميها. آنذاك كنا عيش في مونتريال، حيث ولدت، وحيث التقى والداي. كان التليفزيون في غرفة المعيشة يعرض ساحر أوز. وجدراننا تحمل مزيجا من اللوحات المعاصرة والبرديات التي دأب أبي على الرجوع بها من أسفاره. أمي كاثوليكية كندية فرنسية من أصل صربي أيرلندي. وكانت ترتدي القفطان حبًا في ارتداء القفاطين في البيت. وكذلك الحلي الذهبية البسيطة التي كان أبي يرجع بها من رحلاته الخارجية الكثيرة.

على شاشة التليفزيون كانت دوروثي لم تزل بالأبيض والأسود تغني "في مكان ما فوق قوس قزح". هل كان عليَّ أن أبكي؟ بدا أن ذلك ما توقعته أمي.

"إلى أين هو ذاهب"؟

قالت أمي "مصر".

كانت الكلمة هرما، ومصطلى تنطق فيه تماثيل أبي الهول، ومكانا نائيا أسطوريا في مثل نأي أوز وأسطوريته. لم أذهب إلى هناك إلا مرة واحدة وأنا في الخامسة. أتذكر حافلة عامة في القاهرة تحملق في أمي بينما أمي ناظرة أمامها، وأنا متشبثة في يدها ونحن نسير في مكان غريب.

سألتها "كم سيطول سفره؟

لعل أمي قالت "من يدري؟"

ظللت أشاهد دوروثي بالأبيض والأسود مستلقية ورأسها على القش، ناظرة في توق إلى السماء عسى أن ترى أقواس قزح. كنت قد شاهدت الفيلم بالفعل مرات عدة، حتى بت أحفظ كل حركاتها عن ظهر قلب. وكنت أعلم أنها عما قريب سوف تخرج من عالم الأبيض والأسود، وتدخل عالم الألوان، في مكان سحري يصبغون فيه عينيها بلون يتماشى ولون فستانها، وتظل برغم ذلك تتوق دائما إلى موطنها الأول. وذلك هو الجزء الذي لم أفهمه قط. رغبتها في الرجوع أصلا. لو كنت مكانها لبقيت مقيمة في أوز، بنعليَّ الياقوتيين وعالمي ناصع الألوان، وأصدقائي الجدد بما فيهم من جمال وعيوب.

قالت أمي "ليس الأمر فقط أنه مسافر. ولكننا سنتطلق".

استشعرت أنها تنظر إليَّ. استشعرت ظنَّها أنني من المؤكد سوف أبكي في تلك اللحظة. فهي نفسها في تلك اللحظة كانت تبكي.

غير أنني لم أزد عن قولي "لا بأس يا أمي"، لأنه كيف كان للأمر أن يختلف على أي نحو عما كان عليه بالفعل؟

حتى قبل أن يبتعد، كان بعيدا في أغلب الحالات. فقد كانت وظيفة أبي في مجال الضيافة تعني سفره في الغالب، إلى مصر أو غيرها من بلاد الشرق الأوسط، لشهور في المرة الواحدة. وهكذا فإن أمي البيضاء هي التي ربَّتني في الغالب، واحتراما لأبي، المسلم المصري المهاجر إلى كندا في سبعينيات القرن العشرين لم تعمِّدني، لكنها ألحقتني بمدارس كاثوليكية، فصارت ثقافة كويبيك ولغاتها ثقافتي ولغاتي. أما عن ثقافة أبي فقد اصطحبني مرة إلى مسجد وأنا في الرابعة، ولم يزد ما تعلمته من العربية عن أبيات من أغنية للأطفال، أغنية مصرية عن إوزة وبطة.

ماما زمانها جاية

جاية بعد شوية

جايبة علب وحاجات

جايبة معاها شنطة

فيها وزة وبطة

بتعمل

واك واك واك

بعد الطلاق، لن يزداد عالم أبي بالنسبة إليَّ إلا غرابة. لا أكاد أعرف منه إلا غيابه، لغزا ينسرب إليَّ عبر مسام عيني أمي المؤسطِرَتين. سوف يظهر بين الحين والآخر، بغتة ودونما إنذار، حاملا معه هدايا غريبة: دمية محشوة مثلا على شكل  جمل طويل الرموش، أو قنينة عطر ملونة تلوينا بديعا ومصنوعة من الزجاج المنفوخ على شكل قنديل علاء الدين، أو علبة تمر. ويخرج بي إلى مطعم أمريكي للوجبات السريعة، أو يفاجئني برحلة إلى عالم ديزني، وبعد ذلك يختفي اختفاءات طويلة.

ومع ذلك، حتى في غيابه، بقيت دائما ابنة أبيها وشبيهته، بمثل بشرته الزيتونية وعينيه اللوزيتين، وحاملة اسمه. ولم يكن غائبا عني أنني مختلفة عن زميلات فصلي في مونتريال وتورنتو. وكانت أمي تصر على أن أعتز بتراثي المصري. وحينما صدرت لي بطاقة التأمين الاجتماعي الأولى وأنا في الخامسة عشرة قالت للموظف الحكومي إن اسمي الأوسط، ياسمين، لا ينبغي أن يكتب بحرف e في آخره.

قالت "بالطريقة العربية"، وكأنها تعرف ما تتكلم عنه. وبقيت ترتدي حلي الخرطوش وعنخ وعين حورس التي ظل أبي يأتي بها من رحلاته. وإن سألها عن تلك الحلي أحد تقول مشرقة الابتسامة "من مصر". لكن هذه الغرابة، وهذه الحلي الصغيرة ذات الوميض على بشرتها البيضاء، كانت أمرا يسهل التخلص منه. وهي لم تكن تستعمل اسمها الذي اكتسبته بالزواج إلا للتهرب من الدائنين.

كررت في مرارة "بالطريقة العربية". هذا الإحساس الطفولي بعدم الرغبة في ألا يراك الآخرون مختلفا، هذا الإحساس الدائم، هذا العار الحارق ببطء. ولم يكن لازدياد النضج، وتنامي الوعي بالذات، إلا أن يحوله إلى عار من الإحساس بالعار خلال سنوات مراهقتي.

في سنة 2001، كنت في الكلية، أعيش في تورنتو. وكانت أمي قد انتقلت إلى سياتل [في واشنطن بالولايات المتحدة]. أما أبي في المقابل فكان أقرب، يدير فندقا في هاملتن بأونتاريو. كان لم يزل طويل الاختفاءات ـ إما لأعماله الخاصة في الشرق الأوسط أو بسبب عمله في الشركة الفندقية ـ لكننا صرنا نرى أحدنا الآخر أكثر. إذ كان يقابلني لتناول القهوة في ستاربكس بجوار الحرم الجامعي أو نخرج لتناول العشاء.

أتذكر بعد الحادي عشر من سبتمبر أنني اتصلت بأبي وكان بعيدا. قلت "أبي، ما معنى هذا الذي يجري؟ بالنسبة إلينا؟".

قال "لا دخل له بنا. لا تقلقي".

لكنني قلقت، على كلينا.

لمَّا علمت أن أحد منفذي الهجمة، بل أحد الطيارين في واقع الأمر، كان مصريا، أتذكر أنني لم أشعر فقط بالعار والغضب، بل زاد عليهما الخوف. لا من الهجمة وحدها، ولكن من تبعاتها. ولا من هجمات مستقبلية. إنما هو خوف من الارتباط بهم. لم أشعر أنني أستحق نصيبا من غضب الجميع عليهم، وإن شعرت أنا نفسي بالغضب. لقد كنت أنا هم، وإن لم أعرف أصلا من هم.

بحلول هذا الوقت، كنت قد بدأت بالفعل أتعرض لمتاعب على حدود الولايات المتحدة، شأن أبي حسب ما علمت. تأخيرات، تحقيقات شاملة، نظرات مطولة في جواز سفري ثم في وجهي. اصطحاب الضباط جواز سفري إلى غرفة أخرى وعدم رجوعهم إلا بعد وقت طويل للغاية. قال لي خالي مازحا "إنهم يحسبون أنك إرهابية" وكان فحص جواز سفري قد عطلنا جميعا خلال رحلة عائلية.

نظرت لي أمي وقالت في عجب "واو، عموما هذا أمر جيد من بعض الأوجه، صح؟ كونهم على هذا القدر من الحرص".

أتذكر أنني اتصلت بأبي عندما حدث ذلك للمرة الأولى. كان بعيدا، في الخارج، وتحتم أن أحاول مرات حتى أصل إليه. ولما وصلت إليه أخيرا قلتها في وجهه دونما مراعاة لأي اعتبارات "أبي، تعرضت للإيقاف".

قال بصوت مشوش عبر الهاتف "الإيقاف؟"

قلت "لا أعرف"، مع أنني بالطبع كنت أعرف. بسبب اسمي. اسمك. في خريف ذلك العام، كان لي حبيب مقيم بعيدا، حبيب أمريكي مقيم في مدينة سولت ليك. جاء لزيارتي في أكتوبر، بعد شهر من الهجمات. ودعته في مطار تورنتو قبل أن يبدأ الإجراءات الأمنية. تبادلنا القبلات، ونحن نبكي. كان ينتظر أن تمضي شهور قبل أن يرى أحدنا الآخر من جديد وقد باتت الحدود فجأة محكمة الإغلاق، ولم أكن أعرف كي سنتغلب على هذا.

بعدما رجعت إلى البيت من المطار، تلقيت منه اتصالا هاتفيا. قال "فاتتني الرحلة. يعني. الشرطة اعتقلتني".

كانت امرأة ما قد شاهدتنا ونحن نتبادل قبلات الوداع فظنت أنني في ثنايا ذلك دسست له سلاحا ـ شفرة؟ ـ من فمي إلى فمه. حينما حققت الشرطة مع حبيبي، سألوه عما قد يجعل شخصا يتصور ذلك؟ فتشوا حقائبه واستهزأوا من اسطواناته وكتبه. احتجزوه لساعات مكررين عليه الأسئلة ذاتها.

قال ن الأسئلة كلها "عنا. عنك في الغالب".

"جنون". كذلك قال أبي حينما حكيت له، ونحن نتناول القهوة. رأى أن امرأة المطار تلك سافرة الجنون. إذ ما الذي يحمل أي إنسان يراني على أن يظن بي تلك الظنون؟

نظرت إلى أبي، نظرتي إلى وجهي في المرآة. بشرته بشرتي. قسماته في قسماتي. لأن شكلي عربي. مثلك.

ولكن ما قلته له هو "لا أعرف".

 حينما حاولت أن أعبر حدود الولايات المتحدة في الصيف التالي، منعت من الدخول. كنت قد ركبت قطارا من تورنتو لأنني أخاف من الطيرن، ولما وصلنا إلى الحدود، انتحوا بي جانبا على الفور، واستجوبوني وفتشتني ضابطة شقراء رفضت أن تصدق أنني ذاهبة لمقابلة حبيبي في مدينة سولت ليك، ثم أمي في نيويورك. لم تسمح لي بالاتصال بأمي. بكيت حينما قالت إنهم سوف ير جعونني. قالت إنني أبكي لأنني أعرف أنني أكذب. قال ضابطان من الرجال مازحين إنني محظوظة  لأنني لم أخضع لتفتيش ذاتي. أتذكر أنني سرت من الجسر الذي أنزلوني عليه إلى محطة القطارات، وأتذكر قعقعة القطار في رحلة العودة الطويلة إلى تورنتو.

جاء أبي ليقلني من المحطة وساق بي إلى البيت في العتمة، وكلانا يدخن السجائر. بدا لي عند المحطة وكأنه سراب. لم يكن في تلك المرة بعيدا في عمل. وامتننت لذلك. كان الشخص الوحيد الذي أردت رؤيته. طالت علينا الرحلة إلى البيت. كنت كلما ركبت مع أبي سيارته انهلت عليه بالموسيقى التي أكون مغرمة بها في حينه، قكم هدرت صاخبة في سيارته موسيقى روك الثمانينيات المعروفة بالجرنج grunge ، أو "الجوثيك روك" أو "الإندستريال روك". ودائما كان يحتمل. بل كان يسأل في تهذب ما هذه؟ وأقول له فيومئ في لطف ويقول لطيفة.

أما في تلك المرة فسقنا في صمت.

أخيرا قال وهو ناظر إلى الواقي الزجاجي على شباك السيارة "لعلهم استوقفوك لأنك صغيرة وتسافرين وحدك. عندما تكونين صغيرة، يكون استجوابهم أطول".

قلت "لا أعتقد أن هذا هو السبب يا أبي".

لم يرد أبي.

سرعان ما ماتت أمي نتيجة أمراض مزمنة. وسرعان ما تزوجتُ حبيبي الأمريكي في كندا، ورافقني أبي في ممشى الكنيسة. احتفظت باسمي. ولا أعرف لهذا سببا. ربما عار التلوث بالعار. ربما للتقارب بيني وبين أبي بعد رحيل أمي. أو ربما لأن اسمه هو اسمي وقد فهمت أخيرًا، أنه مهما بدا غريب الوقع والإحساس، فهو اسمي.

الآن، بعد سنين، وأنا أتكلم مع أبي على الهاتف، أشعر بالخوف، ويعتريني القلق، لكنني أشعر أخيرا بالقبول. سبق لكلينا أن تعامل مع البعد من قبل. فكثير من جوانب حياة كل واحد فينا مجهول للآخر، غير حاضر إلا في الغياب. فالبعد والغموض، بدرجة ما، هما كل ما يربط بيننا.

أقول له "من فضلك اهتم بنفسك"

يقول "حاضر".

لكنني فيما أنهي المكالمة، تعاودني ذكرى من مصر ناصعة الألوان.

أنا في الخامسة من العمر. ونحن على شاطئ في الإسكندرية، حيثما ولد هو. نخوض كلانا في البحر، يتقدمني أبي، وأنا متخلفة وراءه. نحن بالليل وما من قمر فوقنا، تسطع من ورائي ساقية الملاهي وتدور على الشط. مؤكد أن أمي أو شخصًا ما في الجوار، بل لعل يدي في يدها أو يد ذلك الشخص مهما يكن. لكن ما أتذكره هو أنني وحدي ومن فوقي القمر، أشاهد أبي. أّتذكر أعقاب سجائر في البحر، وخوفي من الماء الوسخ. وأبي لا يبالي. يخوض متقدما إلى العميق، بادي الرضا، في وطنه، غير ملتفت إلى القمامة الطافية في كل موضع حولنا. ربما كان ينبغي أن أتبعه، لكنني اكتفيت بالوقوف، غير بعيدة عن الشط إلا بمقدار أن يبلغ الماء ربلة ساقي، أشاهده وهو يتقدم وسط الموج الوسخ، غير ملتفت وراءه.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

محمد عُبيد الله في كتابه "بلاغة المنفى".. تجربة في قراءة القصيدة الدرويشية

عن تعليم العربية للناطقين بغيرها: قاعدة لدعم القضية الفلسطينية