28-يونيو-2022
موسى كلكليك

كاريكاتير لـ موسى كلكليك/ تركيا

كان من المفترض مشاركة مغني الراب اللبناني بو ناصر الطفار في حفل موسيقي ببرلين ضمن فعاليات مهرجان صوت، إلا أن السفارة الألمانية رفضت منحه تأشيرة الدخول على الرغم من حصوله على التأشيرة في العام الماضي وإحيائه لثلاث حفلات في ثلاث دول أوروبية، حسب ما كتب الطفار على صفحته الرسمية على فيسبوك. اعتذر الطفار لجمهوره عن عدم المشاركة في المهرجان معزيًا السبب إلى "العالم الأبيض وسفالة أنظمته وبيروقراطيته حين يتعلق الأمر بنا نحن أشباه البشر، ومعاملتنا كحشرات تهدد امتيازاتهم".

عندما انحرفت سوريا نحو الحرب، صار الخلاص الفردي هو الحل، اندفع الملايين هاربين بكل ما يملكون من مدخرات، إما بعبور البر أو بعبور البحر، فهنا موت وهناك موت

لا ينفك العالم الأول المتحضر يذكرنا بمأساتنا العربية في كل يوم، يذكرنا أننا أبناء العالم الثالث، أبناء المنطقة المنكوبة وبلدان الحروب والتخلف. كنت صغيرًا قبل موجة الثورات العربية ولم أذهب بعيدًا عن مدينتنا الزراعية الصغيرة، القاهرة هي أبعد نقطة وطأتها قدمي، مركز البلاد ومحور التقاء الكتاب والمثقفين. انتقلت إلى القاهرة قبل عام ونصف من قيام الثورة المصرية 2011 وبدأت في التعرف على مجموعات أوسع من الأصدقاء ودوائر فكرية متنوعة ومختلفة ومتنافرة، غير أن تلك المجموعات تشكلت من المصريين، ولا أحد غير المصريين، لم أصادق في تلك الفترة من يحملون أي جنسيات أخرى إلا قلة من زملاء الدراسة في ممن أتوا للتعلم في الجامعات الخاصة المصرية من بلدان عربية كالأردن والسعودية والسودان، لم أصادق أيضًا جنسيات غربية إذا ما استثنينا صديقين أو ثلاثة أوروبيين تعرفت عليهم بواسطة برامج المحادثات المنتشرة في تلك الفترة الزمنية.

تغير الأمر تمامًا بعد الثورة المصرية وما تلاها من أحداث في مصر أو في البلدان العربية الأخرى، توافد الكثير من الأجانب الغربيين على مصر سواء المهتمين بالشأن المصري بحكم عملهم كصحفيين أو كُتاب أو مراسلين، أو السائحين التقليديين الراغبين في رؤية الشعب المصري وميدان التحرير، كانت فرصة للاحتكاك مباشرة بأشخاص لديهم نفس الاهتمامات من جنسيات وثقافات وخلفيات مختلفة، توسعت دائرة الأصدقاء لينضم إليها كثر من بلدان مختلفة، ومع تطور الأحداث في البلدان العربية وما آلت إليه الأمور، بدأ السوريون في التوافد على مصر، لكن هذه المرة ليس كسائحين وزوار كما الغربيين، إنما كهاربين من جرائم الأسد ومن ويلات الحرب والتطرف والطائفية.

ازداد عدد أصدقائي السوريين تدريجيًا حتى أصبحوا في محل تنافس كمّي مع المصريين. السوريون هم الأقرب وجدانيًا للمصريين من باقي الشعوب لسبب غير معلوم، أو هكذا أظن بناءً على مشاهداتي المجتمعية، المصريون مرحِّبون دائمًا بالضيوف الأجانب إلا أن ترحيبهم يزداد في حالة السوريين، يشعرون أنهم شعب واحد بشكل ما، ربما بسبب سنوات الوحدة القديمة بين البلدين (الجمهورية العربية المتحدة) وربما للتقارب العاطفي في المأساة والقهر، يرحب المصريون بالمقهورين دائمًا، هم بجانبهم في الأزمات.

عندما انحرفت سوريا إلى طريق الحرب، صار الخلاص الفردي هو الحل، اندفع الملايين هاربين من مناطق الصراع محاولين الخروج من سوريا بكل ما يملكون من مدخرات، إما بعبور البر أو بعبور البحر، فهنا موت وهناك موت، فلنحاول النجاة على الأقل. سمعت الكثير من الحكايا والمآسِي من أصدقاء مقربين، حكايات من قلب الحرب والقصف والهروب، وحكايات من قلب النزوح الداخلي، وحكايات من قلب المتوسط في مراكب مكتظة بالبشر ومعرّضة للغرق في أي لحظة، وحكايات من بلاد الغربة واللجوء، وحكايات عن تعامل سلطات بلدان العالم الأول مع السوريين، وعمّا قابلوه من انحيازات واضحة وعنصرية قميئة ومرحلة جديدة من المصاعب المهينة في معسكرات اللجوء، ومرحلة أخرى من عنصرية الشعوب نفسها التي تغذيها التيارات اليمينية المتطرفة المناهضة للهجرة.

اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في شباط/فبراير 2022، نظام روسي مجرم له دور من قبل في مأساة السوريين بدعمه لنظام الأسد، واليوم يكرر الجريمة مع شعب جديد، دومًا ما تكون الشعوب هي ضحية صراعات القوة والنفوذ وفرض السيطرة بين جيوش وأسلحة وأقطاب العالم الأول. ومثلما هرب السوريون من أوطانهم كذلك فعل الأوكرانيون، وبعد شهر واحد من الغزو الروسي وصل عدد اللاجئين الأوكرانيين في أوروبا إلى 4 ملايين، ووصل عدد النازحين داخليًا إلى 6 ملايين أوكراني، وبعد ثلاثة أشهر على اندلاع الحرب، ارتفع عدد اللاجئين الأوكرانيين في أوروبا إلى 6.6 مليون لاجيء، طبقًا لآخر تقديرات من الأمم المتحدة، وبالتأكيد ارتفع العدد مجددًا خلال الشهر الأخير، حيث تشهد أوروبا موجة من النزوح والهجرة الداخلية لم تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية.

تجاوز عدد اللاجئين الأوكرانيين اليوم أعداد السوريين الذين بدورهم يعانون ويلات الحرب منذ أكثر من 11 عامًا، جميعهم ضحايا الأنظمة المستبدة، ولكن المفارقة هنا، أن العالم استقبل من الأوكرانيين في ثلاثة أشهر فقط أكثر مما استقبله من السوريين على مدار 11 عامًا (مع الأخذ بالاعتبار أن تعداد سكان أوكرانيا ضعف تعداد سكان سوريا وقت اندلاع الحرب).

حتى في الحروب والكوارث، هناك شعوب أكثر حظًا من أخرى، شعوب مدعومة من العالم الأول، في غير حاجة لهجرة غير شرعية أو مجابهة أمواج وظلمات البحر للوصول إلى بر آمن

حكى لي صديق عربي يعيش كلاجئ في أوروبا أنه مع بداية الحرب الأوكرانية بدأت الدول الأوروبية في إخلاء معسكرات اللجوء وأماكن السكن من اللاجئين الأفغان، كي يوفروا أماكن بديلة للأوكرانيين، أخبرني صديقي: "هكذا ينظر إلينا العالم المتحضر المتبني للقيم الإنسانية والمساواة، نحن نأتي في المرتبة الثانية، عرب كنا أم أفغان.. لسنا أكثر من ورقة لعب على طاولة السياسة".

وتلك هي المعضلة، أنه حتى في الحروب والكوارث، هناك شعوب أكثر حظًا من أخرى، شعوب مدعومة من العالم الأول، في غير حاجة لهجرة غير شرعية أو مجابهة أمواج وظلمات البحر للوصول إلى بر آمن، لست بصدد مزايدات على المأساة الإنسانية، ولكني ناقم على أوطاننا، هنا حرب وهناك حرب، وليست الحروب واحدة في نظر الرجل الأبيض المتشدق بشعارات القيم الإنسانية، إنما الواقع يحكمه المصالح وأوراق اللعب السياسية وتوازنات القوة في المنطقة، الواقع يحكمه المصالح ولا عزاء للمعايير الأخلاقية، وإن ادّعى الرجل الأبيض غير ذلك.