10-مارس-2022
مدنيون في مدينة إربين في اوكرانيا (Getty)

مدنيون في مدينة إربين في اوكرانيا (Getty)

من أجل فهمها نسعى وراء أخبار الدمار، وتحركات الجيوش، وأعداد القتلى، وننسى أنها واضحة تمامًا عند من عاشوها من قبل.

لن نعرف ما يحدث أبدًا، لأنّنا لم نعرف ما حدث.

ستظل الحرب مجهولة، أو عصية على الفهم، ما لم نعط بالًا للقلق والذعر الذي عاشه الناس مرّةً، ولا يزال يتمدد مع أيامهم، ويكبر مع أجسادهم.

لن تنطفئ الحرب المشتعلة في دواخل من عاشوها من قبل إن لم تُساعد في فهم الحرب الجديدة، الذاهبة بهمّةٍ إلى دواخل هؤلاء الذين وقعت عليهم. وما دمنا لا نفهم ذلك، أو لا نسعى إلى فهمه، فلن تنتهي الحروب أبدًا.

ما أسهل تجارة الأوهام على من لا يملكون ألمًا! وما أقساها على الذين تشردوا وتنكبوا الفقد وبكوا وتمزقوا!

 

أكبر الأكاذيب تلك التي تزعم أن النجاة من الموت في الحرب هي نجاة نهائية. أي أنه حين تنتهي العمليات العسكرية، وبعد دفن الجثث المتناثرة، أو إحراقها، وبعد بدء الإعمار، وعودة الأعمال، يمكن للمرء أن يُكمل حياته وكأنّ الحرب مجرد ذكرى سيئة.

ما أسهل تجارة الأوهام على من لا يملكون ألمًا! وما أقساها على الذين تشردوا وتنكبوا الفقد وبكوا وتمزقوا!

الحرب حية في هؤلاء دومًا، والسلام مهما ادعى الحضور يبقى غائبًا، وبعد رحيلهم تنتقل الصدمة مع الجينات.

أكثر ما يجمع ضحايا الحروب، على اختلاف أنواعها وأسمائها، هو الكوابيس. المقاتلون مشغولون بالقتال. المدنيون مشغولون بالهرب. وعمّا قليل، بعد هدوء الجبهات، بعد توقف الأقدام عن الركض، حين يصبح في إمكان الجميع النوم بأمان، سوف تتفجر الذاكرة في لعنة جماعية على شكل كوابيس. سيختار كل واحد منهم اللحظة الأشد رعبًا من بين كل ما عاشه. وسيظل يكررها، متعرقًا لاهثًا شبه مخنوق، في نومه.

هنا بالضبط تبقى الحروب مشتعلة إلى ما لا نهاية. لا اتفاقيات السلام تجدي، ولا نفاد الذخيرة، ولا هزيمة طرف، ولا دخول قوات دولية.

هنا يلتقي كل الذين شهدوا حربًا من قبل، على اختلاف الأزمنة والأمكنة.. والأسلحة، ليكونوا أحد اثنين: مقاتل في معركة لن تنتهي، أو هارب على طريق بطول العالم!

لن تجرؤوا على النظر إلى كوابيسنا التي تفسّر الحرب القائمة والسابقة، فليس فيكم من الشجاعة ما يكفي للنظر إلى ما اختزناه من ذعر وهلع، وليس لديكم من النزاهة ما يدفعكم للاعتراف بأنَّنا شهود الطريقة الأكثر مأساوية لموت الأمل

 

يمكنكم فهم أسباب الحروب. يمكنكم توقع نتائجها عسكريًّا واستراتيجيًا. أما ما يجري لنا، ما يرافقنا دائمًا، سيظلّ غامضًا وفوق اللغة.

لن تجرؤوا على النظر إلى كوابيسنا التي تفسّر الحرب القائمة والسابقة، والصالحة بالطبع لتفسير كل الحروب. فليس فيكم من الشجاعة ما يكفي للنظر إلى ما اختزناه من ذعر وهلع، وليس لديكم من النزاهة ما يدفعكم للاعتراف بأنَّنا شهود الطريقة الأكثر مأساوية لموت الأمل.

2 لم يتغيّر شيء أكثر من أنواع الأسلحة. لم يتطور شيء أكثر من فعاليتها. ومع ذلك، لا يبالي القتلى كثيرًا إن قضت عليهم قنبلة فراغية أو طيارة سوخوي!

3

تغدو الحرب أكثر إنصافًا من السلام حين تأخذنا، مرةً تلو مرةٍ، إلى التعرّف على أمكنة مجهولة من العالم، بينما يظل السلام عالقًا في حب البلدان الشهيرة، أو للدقة؛ في حب الشهير من البلدان الشهيرة.

عندما يقال إن الحرب أفضل معلم في الجغرافيا فذلك قول سديد، لأنها تمتلك قدرة استثنائية على جعل القرى والبلدات والمدن الهامشية معروفة على نطاق عالمي، بل إنها تُشهر في بعض الأحيان شارعًا، أو حتى مبنى.

ما يُحزن أن هذه المعرفة تظل محصورة بالخراب، أو بمشهد الناس المعذبين، هؤلاء الذين يخرجون، إن خرجوا، من الموت إلى احتمالات المجاعة والأوبئة والبؤس والعيش في عصور سالفة.

الأسوأ أن البلد الذي شهد حربًا تغدو الصورة الشاحبة هي التي يُعرف بها، وقلما يشهد اعترافًا بسلامه إن حدث سلام، أو بصوره زمن السلام.

لنتذكّر أن الأحداث الدموية حذفت سوريا القديمة، أو كادت، من ذاكرة الإنترنت، لتضع مكانها سوريا المدمرة، سوريا الإرهاب، سوريا اللاجئين، سوريا الشبيحة. حتى المعالم التاريخية، مثل تدمر أو بصرى، لم تعد تحضر دون ارتباطها بمعركة او اقتحام.

ربما وضعت الحرب سوريا، ذلك البلد المغمور، تحت أنظار العالم، لكنَّ ما هو أكيد أنها محتها من الذاكرة.

 

4

ألبوم هي الحرب

أطلس هي الحرب

على شكل جحيم.

 

5

نسفت الحربُ مع المباني والبيوت، ومع غبار المستقبل، فكرة الشهيد في رؤوسنا.

نحن الذين تربينا على أنه إنسان بمواصفات قديس. نحن الذين صدّقنا أنه جاء إلى الحياة ليفدي الآخرين، وضعنا بين أمنيات الطفولة لشدة ما أحببناه أمنية استثنائية لأجله: أن نصبح شهداء.

ربما وضعت الحرب سوريا، ذلك البلد المغمور، تحت أنظار العالم، لكنَّ ما هو أكيد أنها محتها من الذاكرة!

 

ثم جاءت الحرب عاصفة إلى حياتنا المنسية الهادئة، ومع بدء استشهاد مع نعرفهم راحت القداسة تتلاشى، لأن الذين يموتون بشر حتى قاع فكرة البشر. هذا ضعيف، وذلك نمّام. هذه قاسية، لكنها حنونة في أيام معينة، وتلك لا تريد سوى أن تجمع النكات وتضحك.

فتت برميل متفجر امرأةً لم تكن تصبو لغير حياة ملأى بالثرثرات مع الجيران، ولهذا كانت تستمتع بالفتن الصغيرة. وثقبَ قناص رأس سائق تاكسي، شجاع ومغامر، لكنه استثمر في شجاعته. وضع تسعيرة عالية لمن يريدون عبور الطريق الوحيد المتاح في المنطقة، رغم أنه مقنوص.

حين ماتت تلك، وحين مات هذا، لم نجد شهداء مثل الذين تحدّثت عنهم الكتب المدرسية، بل ضحايا ضعيفة ومظلومة، لكنها قادرة على نسف فكرة الموت المقدس.

 

6

أيها الخارجون من الحروب، القديمة أو الأقل من قديمة بقليل؛

توقفوا عن استعمال عبارة "نحن مع الضحايا"، فلم تقمْ محاكمات ضد كل الذين فتكوا بكم.

توقفوا عن استعمالها فلم يجر بحث جدي وحقيقي لما جرى، كي يبني الرواية التي تبصمون على صحتها.

توقفوا فلم يحدث أن منحتم أي تعويض، ولم تسنّ أية قوانين تمنع اندلاع الحرب مرة أخرى.

توقفوا فلم نشهد أي أمر رمزي يكرم الضحايا الذين عرفتموهم، كي يجعل من ذكراهم حيةً في نوع من الاعتذار عن الحياة التي سُلبت منهم.

توقفوا عن استعمال العبارة الحالمة واستبدلوها بما هو واقع: "نحن الضحايا".