02-فبراير-2024
بعد سقوط مخيم تل الزعتر (تصوير إسماعيل شموط 1976- ذاكرة فلسطين)

بعد سقوط مخيم تل الزعتر (تصوير إسماعيل شموط 1976- ذاكرة فلسطين)

ترد كلمة حصار كلّما ورد الفلسطينيون في الحديث، يبدو أنّ الفلسطينيين حوصروا كثيرًا حتّى صارت هذه المفردة ترد إلى البال مع ورود ذكرهم. والحصار هو فعل جمعي أي تقوم به جماعة ما ضدّ جماعة أخرى، لذلك تبدو كلمة غير قابلة للجمع، وعندما بحثت في المعاجم عن جمعها وجدت الإجماع على: أحصِرة، ولكنّني اخترت جمعها مثل الكلمات الأعجمية على المؤنث السالم لتقريب المعنى.

حوصر الفلسطينيون كثيرًا، وخرجوا من حصاراتهم جميعها بتغيير كبير على الصعيد السياسيّ، خسارات عسكرية وبشرية كبيرة ولكن تحوّلات سياسيّة كبيرة أيضًا. ويُمكننا أن نتذكّر حصار عكّا الشهير، ليس حصار نابليون بل حصار قادة عسكر أحمد باشا الجزار الذين انقلبوا عليه، لقد اعتمد الجزّار على قادة من المماليك ما لبثوا أن انقلبوا عليه وحاصروا عكّا مصرّين على إسقاطه، قام الجزّار بتسليح الصيّادين وعمّال الميناء، وتمكّن من صدّ المعتدين وهزمهم وفكّ الحصار، بعدها صار جيشه وقادته من أهل البلد، صاروا فلسطينيين وهم الذين ردّوا نابليون عن أسوار عكّا بعدها بسنوات قليلة.

وفي الزمن الحديث نتذكّر حصار مخيّم تلّ الزعتر شمال شرقي بيروت صيف عام 1976، حيث فرضت القوات السورية والميليشيات اللبنانية اليمينية حصارًا مطبقًا لا كهرباء ولا ماء ولا غذاء على حوالي أربعين ألف مدني فلسطينيين ولبنانيين، لمدّة 52 يومًا، حتى عقدت قيادة التحرير اتّفاقًا يقضي بخروج جميع سكّان المخيّم والمسلّحين آمنين إلى حيث تستلمهم قوّات الردع العربية (أغلبها من الجيش السوريّ) وتنقلهم إلى مناطق آمنة، لكنّ الميليشيات المُحاصِرة غدرت ودخلت المخيّم يوم 7 آب/أغسطس قبل موعد تنفيذ الاتّفاق بخمسة أيام وفتحت النار على الجميع لتقتل آلاف العزّل.

عم لقد جرّبوا العيش في ظلّ حكومات وقوى تُنادي طوال الوقت بفلسطين واكتشفوا أنّ أصحاب الأصوات المرتفعة من أجل فلسطين هم ببساطة ألدّ أعداء الفلسطينيين

ثمّ يأتي حصار بيروت الغربية صيف عام 1982، والذي انتهى بعد ثلاثة وثمانين يومًا باتّفاق يقضي بخروج قوّات منظّمة التحرير الفلسطينية بأسلحتهم الفردية وضمان سلامة سكّان المخيّمات من قبل قوّات دولية، وغدرت الميليشيات اليمينية اللبنانية ونفّذت مجزرة صبرا وشاتيلا التي راح ضحيّتها أكثر من أربعة آلاف فلسطيني. وبعدها بعام في خريف عام 1983 حوصرت قوّات حركة فتح وقائدها ياسر عرفات في مدينة طرابلس شمالي لبنان ليخرجوا جميعهم بعد اتّفاق بحماية أسطول الاتحاد الأوروبي، يومها أجاب ياسر عرفات إجابته الشهيرة على سؤال لإحدى الصحف الغربية: والآن إلى أين؟ ليقول بكل ثقة: إلى فلسطين.

بعد عشرة أعوام وقّع ياسر عرفات اتفاق أوسلو وفعلًا دخل إلى فلسطين وأُقيمت السلطة الفلسطينية، ولم تكد تمرّ عشرة أعوام حتّى اندلعت انتفاضة الأقصى عام 2000 والتي انتهت بحصار ياسر عرفات عام 2002 في مركز المقاطعة في رام الله، ولم ينتهِ هذا الحصار إلاّ بمرض ياسر عرفات ومغادرته للعلاج ثمّ موته عام 2004. في كلّ الأحصرة الحديثة كان العرب يقفون متفرّجين وبعضهم يستنكر ويعترض دون تأثير، وبعضهم كان يدعم الحصار أو يُشارك فيه.

في أواخر عام 2012 فرضت قوات النظام السوري حصارًا مطبقًا على مخيّم اليرموك، وفي عام 2013 كان قد بقي بضعة آلاف في المخيّم محاصرين ومات المئات من الجوع، كانت مبررات الحصار مختلفة ومتغيّرة، بدأت بوجود مسلّحين معارضين للنظام داخل المخيّم، وخلالها تمّ قصف المخيّم بالطائرات والمدفعية الثقيلة، ثمّ صارت الحجّة وجود تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" داخل المخيّم، والذي لا يعلم أحد كيف دخل أعضاء هذا التنظيم فجأة وسيطروا على المخيّم، ولا أحد يعرف أيضًا على وجه الدقّة كيف خرجوا منه. ولكنّ نتيجة الحصار وما رافقه من معارك وقصف رحل أغلب سكّان المخيّم عن سورية كلّها وليس عن المخيّم فقط. وقبل ذلك في أواخر عام 2011 حاصرت القوّات السورية مخيّم الرمل الفلسطينيّ في مدينة اللاذقية وتمّ ترحيل أغلب سكّانه.

الآن يفرض جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر حصارًا مطبقًا على قطاع غزّة، ومخيّماته الثمانية، ويخوض حربًا وحشية عنيفة على السكّان المدنيين، وطبعًا بحجج مشابهة لحجج الأحصرة السابقة بغضّ النظر عن منفّذيها، وجود عناصر متطرّفة وتنظيمات عنيفة و"إرهابية". لقد خرج الفلسطينيون من تل الزعتر ومن بيروت ثمّ خرجوا من اليرموك، بعض الخارجين من مخيّم اليرموك صاروا لاجئين مجدّدًا في قطاع غزّة!!

لن يُغادر الفلسطينيون قطاع غزّة، فهو أرضهم، ربّما كانوا يخرجون من أماكن وجودهم خارج فلسطين على أمل أنّهم سيعودون إلى فلسطين في النهاية مهتدين بما فعله زعيمهم التاريخي. أمّا الآن وفي غزّة أو في الضفّة، حيث أغلب السكّان هم لاجئون أصلًا قدموا من مدنهم وقراهم داخل فلسطين، فهم لن يخرجوا، ملايين سوف يبقون، ولن تُفلح "الحصارات" والتجويع والإرهاب في جعلهم يخرجون، ليس لأنهم أبطال فقط، ولكن لأنّ لا مكان آخر يذهبون إليه. نعم لقد جرّبوا العيش في ظلّ حكومات وقوى تُنادي طوال الوقت بفلسطين واكتشفوا أنّ أصحاب الأصوات المرتفعة من أجل فلسطين هم ببساطة ألدّ أعداء الفلسطينيين.