23-مايو-2018

صهاينة ينهبون أثاثًا فلسطينيًا قرب القدس 1948

تكتسب عمليّات سلب أنقاض مخيم اليرموك، من قبل عناصر من جيش النظام السوريّ، دلالةً تاريخية خاصّة، لكون سكّان هذا المكان ينحدرون من آباء وأجداد تعرّضوا لسلبٍ مشابه على أيدي عصابات الهاغاناه والإرغون والشتيرن، التي قامت بعمليّات تطهير عرقي في فلسطين عام 1948. لأجل هذا الزمان، ولأجل هذا المكان؛ يجب أن يُوضع الجندي السوري اللص إلى جوار سلفِهِ الجنديّ الصهيوني اللصّ، لأنّ تاريخ اللصوص واحد، ولأنّ عمليات التطهير العرقي والتجويع والحصار والسلب جرائم ضدّ الإنسانية في معايير زمننا.

كيف يمكن للصّ أملاك المهجّرين أن ينام على سرير مملوءٍ بدماء أصحابه، دون أن يشعر أنه ينام في قبر؟

كيف لشخص، لديه قلبٌ، أن يستعمل أريكة عائلة مطرودةٍ من بيتها؟ ألا يشعر أنه يسلب منهم، واحدًا واحدًا، ساعات الاسترخاء؟ كيف لآخر أن ينام على سرير مملوءٍ بدماء أصحابه، دون أن يشعر أنه ينام في قبر؟

كثيرون مثلي يستهجنون انعدام الضمير في هذا، لكننا بينما ننشغل بالسارق ننسى المسروقات وصاحبها، وننسى أنه بالإضافة إلى كل ما فقده وخسره وأضاعه، سوف يظلّ مشغولًا بأشيائه الحميمية البسيطة التي بات يستعملها آخرون.

اقرأ/ي أيضًا: مراثي خان الشيح

ربما ارتاح الذين أجهزت الحرب على بيوتهم بالكامل، فلم تعد أشياؤهم الصغيرة تنتظرهم، فيما أولئك الذي حصلوا على خراب جزئيّ لا يزالون يعلّلون أنفسهم بالآمال، صحيح أنّ مشكلة الحرب أنها تجبر الناس على التقليل من خساراتهم، خاصة إن كانت على مستوى ماديّ قابلٍ للتعويض قياسًا إلى خسارات أخرى تطال الأرواح، لكنّ الصحيح أكثر أنّ خسارة تلك الأشياء هي ما لا يمكن إخراجه من الذاكرة، وهي ما يستحيل إرساله إلى سلة مهملات النسيان، بل إنها تشكّل نوعًا من منبّه يعمل باستمرار على التذكير بالحرب كشيءٍ لا مُكنةَ في التعافي منه.

سمّى السوريون عمليّات نهب ممتلكات المهجّرين من بيوتهم اسمًا محليًّا هو "التَّعْفيش"، وهي كلمة مشتقّة من كلمة "عَفْش"، التي تعني الأثاث، وأصبح "التعفيش" مفهومًا يشير إلى عمليّات سلب الممتلكات التي بدأها جيش النظام السوريّ، ومُورست مرارًا في أوقات لاحقة، وأماكن مختلفة، إلى أن انخرطت في هذه العمليات جماعات تنتمي إلى المعارضة.

اتخذ "التعفيش" منذ البداية طابعًا طائفيًّا مع السوق الأول الذي أسّسه الشبيحة على إثر سلب أحياء في مدينة حمص، عُرف وقتها بـ"سوق السُّنّة". ولعل متابعة هذه العملية تحكي لنا مسارًا اجتماعيًا - اقتصاديًا لاستباحة الإنسان السوري.

تعفيش اليرموك
سخّنات مياه للحمامات، أُخرجت من ركام مخيم اليرموك

لتقريب الصورتين، بين "التعفيش" الأسدي والسلب الصهيوني، سأقتبس بعضًا مما كتبه الباحث ناثان كريستال، في دراسة له ضمن الكتاب الجماعي "القدس 1948، الأحياء العربية ومصيرها في حرب 1948": "وقف عدد من سكّان القطمون وشاهد، من موقع قريب مشرف، أملاكه وهي تُحمل على شاحنات وتؤخذ إلى مكان مجهول" (ص 133). يتحدّث ناثان هنا عما جرى في حي القطمون المقدسي، يوم 30 نيسان/أبريل 1948.  ثمّ يؤكّد لنا أن النهب الصهيوني كان ظاهرة واسعة النطاق آنذاك، لا في القطمون وحسب، بل في عموم أنحاء فلسطين. ومن الوثائق التي يستند إليها رسالة وجّهها دوف جوزيف، الحاكم العسكري للقدس خلال النكبة، إلى ديفيد بن غوريون رئيس الوكالة اليهودية، يقول فيها: "النهب ينتشر مرّة أخرى، لا أستطيع التحقّق من التقارير التي تصلني، لكنْ يتكوّن لدي انطباع واضح أن القادة ليسوا معنيين بالقبض على اللصوص ومعاقبتهم".

لا بدّ من الإشارة إلى أن جوزيف، المستاء من النهب، كان عضوًا في لجنة ترحيل العرب (الترانسفير)، التابعة للوكالة اليهودية، والتي وضعت قبل عام 1948، خططًا تفصيلية لطرد الفلسطينيين.

باتت تتوفّر لدينا وثائق كثيرة عن "التعفيش" الصهيوني، منها على سبيل المثال لا الحصر، أنّ غولدا مائير، عندما كانت وزيرة للخارجية في الستينيات، سكنت في "فيلا هارون الرشيد" التي بناها الفلسطيني الثريّ حنا بشارات بيتًا له، وحين علمت أن الأمين العام للأمم المتحدة سيأتي لزيارتها أصدرت أمرًا بإزالة اللوحة المكتوب عليها اسم الفيلا بالعربية والإنجليزية عند المدخل.

ومن الأمثلة أيضًا؛ أنه من بين كل المنازل العربية التي هجّر أصحابها خلال النكبة، لم يصل إلى القيّم الصهيوني سوى 509 قطع من السجّاد. طبعًا وظيفة القيّم هي رعاية أملاك الغائبين لإعادتها إلى أصحابها، لكن وظيفته الحقيقية هي بيع الممتلكات أو توزيعها.

في فيلم "الزمن الباقي"، قدّم لنا إيليا سليمان مشاهد من نهب بيوت مدينة الناصرة خلال النكبة، وصلت سخريتها إلى أنّ الجنود اللصوص كانوا على درجة من الطمأنينة والراحة، إلى حدّ أن يقوموا بطي الشراشف المسروقة لتوضع بعناية في شاحناتهم.

 من بين كل المنازل العربية التي هجّر أصحابها خلال النكبة، لم يصل إلى القيّم الصهيوني سوى 509 قطع من السجّاد

ومن مشاهد النهب التي لا تنسى في "أولاد الغيتو – اسمي آدم"، يحكي لنا إلياس خوري عن ضابط صهيوني يحقّق مع مجموعة شباب، ثم يشير لهم أن يغادروا، لكنَّ واحدًا منهم بقي في مكانه وقال للضابط: "الطاولة.. إنها طاولتنا".

اقرأ/ي أيضًا: الفلسطيني السوري.. ذاتٌ تتشظى

يرسم خوري المشهد بلسان ذلك الشاب: "حاولت أن أشرح له وأنا أتأتئ من الرهبة أن هذه الطاولة صنعها أبي بيديه، وضعناها في غرفة الطعام، وهي مصنوعة من خشب زيتونة معمّرة يبست في حقلنا، وأبي أراد لهذه الزيتونة أن ترافقنا طول العمر، لأن رائحة خشب الزيتون تفحّ منها. الرائحة يا سيدي، هذه رائحتنا، وأنتم سرقتم رائحة أبي" (ص403).

عمل "المتحف الفلسطيني"، في الضفة الغربية، على مشروع يقوم على سؤال اللاجئين عن الأشياء اللي حملوها معهم عندما خرجوا من بيوتهم، وكيف اختاروها، بهدف الكشف عن علاقة الناس بالأشياء، تلك العلاقة التي حاصلها في النهاية هو الوطن والحياة معًا. والسؤال عما حمل الناس اليوم تغيّر، لأنه بات يحيل إلى ما لم يحملوا، إلى فكرة الفرصة الضائعة والاحتمال غير الممكن، وهذه تبتكر ذروةً أعلى للتراجيديا الفلسطينية.

الصورة واحدة، التاريخ يتكرّر، وفي الحالتين لدينا نكبة لا تنتهي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ذكرى "مسيرة العودة" من اليرموك إلى فلسطين

طلب انتساب إلى مخيم اليرموك