10-يوليو-2018

الكاتب العراقي حسن بلاسم

يصل إلى مركز العبور – هكذا بدأت قصة الأرشيف والواقع من مجموعة "معرض الجثث" (منشورات المتوسط، 2015) للروائي العراقي حسن بلاسم- وهناك يضطر لأن يسرد على عون الإغاثة قصته الغريبة. القصة التي ستتحوّل إلى مادة أرشيفية، تُضاف إلى قصص أخرى لآلاف الهاربين من الحرب العبثية في العراق أو في سوريا، أو في أي منطقة من العالم الذي مزقته الحروب. تتحوّل القصة إلى تأشيرة للحصول على حق اللجوء إلى بلد أوروبي. القصة طوف نجاة، يتشبث به اللاجئ حتى لا يغرق.

مركز العبور يناسب وضعية ضحايا الحروب العبثية، فهو بمثابة درجة الصفر من المكان

يُمكن في البداية أن نطرح سؤالًا عن دلالة اختيار حسن بلاسم "مركز العبور" مكانًا لسرد قصّة السائق؟ أكيد أنّ الاختيار لم يكن عشوائيًا، بل إنّ القارئ يكتشف أنّ مركز العبور يناسب وضعية ضحايا الحروب العبثية، فهو بمثابة درجة الصفر من المكان: مكان حيادي، حيث لا يشعر الهارب بأنّه في أيّ مكان، لا هو في وطنه ولا هو في منفاه. وكأنّ القصص هي آخر قطعة حطام يتشبث بها الهارب من الحرب بعد أن غرقت السفينة، وبلعت أعماق البحر كلّ الذين كانوا على متنها.

اقرأ/ي أيضًا: كيف يرى كتاب الخيال العلمي مستقبل العراق؟

بدأت مأساة بطل قصة حسن بلاسم يوم اختطفته جماعة إرهابية، في ليلة شتوية بعد أن أوكلت له إدارة المستشفى مهمّة نقل رؤوس ستة ضحايا إلى مركز حفظ الجثث.

ستكون مهمته الجديدة بعد الاختطاف تفجير موهبته في التمثيل، مرة بلعب دور الضحية ومرة بوصفه بطلًا. إذ قامت الجماعة الإرهابية بتصويره أمام الرؤوس الستة، ليؤدي دور ضابط في الجيش العراقي كانت مهمته اغتصاب النساء والاعتداء على المواطنين الأبرياء، بأمر من ضابط في الجيش الأمريكي. أما عن الرؤوس الموضوعة أمام قدميه فهي لستة ضباط من الجيش العراقي تمّ إعدامهم بتهمة الخيانة.

لقي الفيديو نجاحًا باهرًا، وتداولته وسائل الإعلام الكبيرة، على غرار قناة الجزيرة، على أنّه فيديو حقيقي، وهو ما آلم السائق ألمًا شديدًا. نفترض أنّه قال في قرارة نفسه: الإعلام مجرد آلة كبيرة لصناعة الكذب، وتصديق الأكاذيب. لم تعد وظيفة الإعلام نقل الواقع بل اختلاقه أيضًا. وبسبب هذا النجاح، أصبح السائق مطلوبًا من قبل الجماعات المتشدّدة الأخرى، لأجل استغلال موهبته الفذة في الدعاية الحربية، الأمر الذي رفع أسهمه عاليًا.

وبسبب كثرة الطلب عليه، قامت الجماعة الأولى ببيعه لجماعة أخرى، بغية تسجيل فيديو جديد، لكن بدور مختلف، وسيؤدّي السائق في القصة أدوارًا متعددة، من عضو في جيش المهدي، إلى شيعي، ثم سني، ثم كردي خائن، ثم مسيحي كافر، ثم إرهابي سعودي... إلخ، وكل هذه الأدوار كلّلت بنجاح مبهر.

لقد أبان السائق عن موهبة فذة في تقمص الأدوار، كأنّه تلقّى دروسًا عالية المستوى في فن التمثيل المسرحي، فتارة يتقمّص دور الضحية، وتارة أخرى دور القاتل المرعب الذي يجزّ الرؤوس. بين ليلة وضحاها، تحوّلت حياته إلى مسرحية ساخرة. ثمّ أليست الحروب مجرّد سخريات سوداء؟

حتى الرؤوس الستة في القصة تحوّلت إلى فواعل سردية مركزية، لأنّ حضورها تجاوز وظيفة تأثيث مشهد تصوير البطل لأدواره المُختلفة. لقد اكتسبت هذه الرؤوس المقطوعة هويات متحوّلة من مشهد إلى مشهد آخر، فهي رؤوس ضباط في الجيش العراقي تارة، وتارة رؤوس شيعية، وفي أخرى رؤوس سنية... إلى غير ذلك من الهويات التي تتبدّل من جلسة تصوير إلى أخرى. في حين هي في الأصل، رؤوس بلا هوية، ثمّ نتساءل: هل للجثث هويات؟

في القصة تظهر شخصية أخرى هي شخصية الأستاذ  صديق السائق. وهي شخصية غامضة، وعميقة في نفس الوقت. لذا كان تأثيرها على السائق بالغا، وما يميزها أنّها تتمتع برؤية فلسفية لاذعة عن هذا العالم الكئيب؛ فهي ترى أنّ "الدم المسفوك والخرافة هما أصل العالم. أما الإنسان فهو ليس الكائن الوحيد الذي يقتل من أجل الخبز أو الحب أو السلطة، فالحيوانات في الغابة تفعل ذلك بشتى السبل، لكنّه الوحيد الذي يقتل بسبب الإيمان". (ص12)

الإنسان هو الكائن الطبيعي الوحيد الذي يقتل بسبب معتقداته الدينية، أو يبرر قتله باللجوء إلى النصوص المقدسة

لنتأمّل الجملة الأخيرة، إنّها تفسّر طبيعة الجريمة البشرية؛ فالإنسان هو الكائن الطبيعي الوحيد الذي يقتل بسبب معتقداته الدينية، أو يبرر قتله باللجوء إلى النصوص المقدسة. القتل بسبب الجوع يختلف عن القتل بسبب الدين.

اقرأ/ي أيضًا: حسن بلاسم في "طفل الشيعة المسموم".. نصوص شبعت من الانتهاك

لقد كتب بلاسم قصته، وقصصه الأخرى، لأجل تجسيد هذه الحقيقة المرعبة: "لا يمكن حل قضية الإنسان إلا بالرعب المتواصل" (ص13)، فحضارة الإنسان هي حضارة العنف، ومنذ العصور القديمة كانت الحروب دائمًا ضرورية.

 

  • ملاحظة: المقال مجرد مقتطف من دراسة مطوّلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حسن بلاسم.. معاينة الإنسان القابع في دواخلنا

صورة للعراق بعد قرن من الاحتلال الأمريكي