21-يونيو-2023
تونس

ثمن الحرية سيدفعه الجميع، لكن الأثمان مختلفة كاختلاف ما سيُسجله التاريخ (صورة توضيحية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

"للحرية ثمن".. هذا آخر ما نُقل عن الصحفي التونسي زياد الهاني قبل إيقافه بسبب تصريحات إذاعية أُعتبرت مسيئة للرئيس التونسي قيس سعيّد

نعم للحرية ثمن.. اليوم وأمس وغدًا، لم يُحافظ شخص ما أو شعب على حرياته وحقوقه إلا ودفع ثمنًا لذلك، وهو ثمن غال غالبًا وإن اختلفت التضحيات والعوائق والمصاعب من زمان ومكان إلى آخر. 

"للحرية ثمن".. هذا آخر ما نُقل عن الصحفي زياد الهاني قبل إيقافه.. نعم للحرية ثمن، اليوم وأمس وغدًا، لم يُحافظ شخص ما أو شعب على حرياته وحقوقه إلا ودفع ثمنًا لذلك

تونسيًا، يُطرح هذا النقاش بشدة مؤخرًا خاصة مع تتالي أخبار الإيقافات والمحاكمات في صفوف السياسيين المعارضين والنشطاء والصحفيين، وهي محاكمات لا تخرج في معظمها عن دائرة إبداء الرأي في مقالات صحفية، أو مداخلات إذاعية أو نقاشات ضمن ندوات مفتوحة. 

"لكن أي ثمن للحرية؟" تسمع هذا السؤال كثيرًا مرفقًا بتساؤلات أخرى: هل ثمنها إيقاف صحفي (زياد الهاني) متقدم في السن يعاني أمراضًا عدة ووضعه الصحي دقيق دون تمكينه من حضور محاميه؟ أم ثمنها إضراب جوع يهدد صحة برلماني سابق (الصحبي عتيق) فصارت زوجته تتنقل بين وسائل الإعلام والمبادرات الحقوقية لطرح حقيقة قضيته والحديث عن مدى تدهور صحته؟ 

هل ثمنها حرمان أم من ابنها (الناشطة شيماء عيسى) أو عائلات من آباء غابوا كما لم يغيبوا سابقًا منذ أشهر دون أسباب واضحة، أم ثمنها حرمان جد (الوزير السابق غازي الشواشي) من احتضان حفيدته في زيارة مباشرة دون أن يُعرف عنه خطورة أو ضرر؟ 

لا تتوقف الأسئلة عند هذا الحد.. لِم على شخص دفع ثمن مقابل حق ما؟ هو ليس منة من أحد، ثم ماذا لو؟ وهذا أصعب الأسئلة. ماذا لو لم يتغير شيء ولم يحصد حريته أو حقه؟ ماذا لو أضر في طريق بحثه عن حريته بأحبته وأهله وأبنائه؟ ما ذنبهم؟ ويتصاعد نسق الحيرة.. وماذا لو نبذه مجتمعه وأحبابه أمام ضغط العامة والسلطة وأدواتها؟ 

"أي ثمن للحرية؟، لِم على شخص دفع ثمن مقابل حق ما؟ هو ليس منة من أحد، ثم ماذا لو لم يتغير شيء ولم يحصد حريته أو حقه؟" 

عند الحديث عن "ثمن الحرية" تعود بي الذاكرة لسنوات قليلة بعد الثورة التونسية، راجت حينها عبارة ساخرة "بقداش الكيلو نضال؟" وتعني باللهجة التونسية "كم سعر كيلوغرام النضال؟". 

انتشرت في سياق العفو التشريعي العام الذي تم إقراره في فيفري/شباط 2011، أسابيع قليلة بعد الثورة التونسية وهو يهدف لتعويض عدة محكوم عليهم قبل الثورة والذين كانت محاكماتهم ذات طابع سياسي أو أيديولوجي، سواء كانوا في السجن أو في المنفى، وذلك ماديًا أو معنويًا. 

سخر حينها جزء من التونسيين من سنوات السجن والتهجير القسري والتعذيب زمن زين العابدين بن علي ومن فلسفة التعويض المادي أو المعنوي لما اصطلح على تسميتهم المناضلين.. واليوم أكثر من أي وقت مضى يتضح أن للحرية والنضال وكل فعل معارض زمن الظلم وفي غياب محاكمات عادلة، ثمن وثمن عال وغال أحيانًا. 

دفع تونسيون سابقًا ويدفعون الآن أثمانًا مختلفة تمسكًا بحقوق وحريات عدة لكن تبدو هذه الفترة من تاريخ تونس من الأكثر خطورة وقسوة لشدة حالة التفرقة والانقسام المجتمعي.

تجتاح المجتمع التونسي موجة تبرير لكل حالة إيقاف/سجن حتى قبل معرفة حقيقة التهمة وصحتها ومدى توفر أدلة وغير ذلك. يُسقطون القاعدة "المتهم بريء حتى تثبت إدانته في حكم قضائي بات وتُضمن له مقومات المحاكمة العادلة"، وتنتشر مواقف وعبارات سمجة من نوع "كان موش غالط توة يخرج.. خلي يبحث.. شفيها ساحبي" وكأن السجن هو القاعدة والتشويه هو الأساس ثم لتأتي البراءة بعد أشهر أو سنوات أو عقود لا ضير في ذلك.. لكن ماذا عن السجن وجروحه وندوب التشويه والوصم؟

تجتاح المجتمع التونسي موجة تبرير لكل حالة إيقاف/سجن حتى قبل معرفة حقيقة التهمة وصحتها ومدى توفر أدلة وغير ذلك.. ويصير السجن هو القاعدة والتشويه هو الأساس لكن ماذا عن جروح الظلم وندوب التشويه والوصم؟

الأكيد أن الجميع يدفع ثمنًا ما لخياراته على اختلافها في هذه الحياة، التي نتخذ فيها قرارات مبكرًا ونتحمل ثمنها ومخلفاتها لاحقًا في مختلف مراحل حياتنا، فحتى الملتزم بالصمت أو الشامت يدفع ثمن فقدان حريته وخنوعه وما لذلك من انعكاسات على كل مناحي الحياة الأخرى بالنسبة له. 

وتزداد الحاجة للمحاربة من أجل الحريات والحقوق، جميعها، ولدفع الثمن كذلك، كلما تمادت السلطة في التضييق والذي تكثف مؤخرًا في تونس مع تعميم المنع عبر قرار قضائي بمنع التداول الإعلامي في قضيتين من الأهم على الساحة التونسية وكذلك تحويل الشأن العام التونسي إلى شأن أمني ـ قضائي بحت تقريبًا. 

تذهب الشعوب عادة إلى مطالبة من تعتبرهم نخبة بضمان حرياتها وحقوقها ومنع الالتفاف عليها لكن الواقع التونسي الحالي مختلف كثيرًا. موجة من الكراهية والشماتة والنقمة تُوجه بشكل خاص نحو ما اصطلح تسميته نخبة في تونس. 

تتعرض الأجسام الوسيطة ومنها الإعلام والأحزاب والمجتمع المدني والنقابات لضغط شعبي تقوده شعبوية مستفحلة فيجد الصحفي نفسه مثلًا محل تحقيق وإيقاف بسبب تقرير صحفي وبدل الالتفاف من حوله إيمانًا بقيمة السلطة الرابعة وحاجة المجتمع لها، تُوجه نحوه الهجمات والاتهامات مما يعمّق "الثمن المدفوع". 

تلتزم أصوات الصمت وتتخذ أخرى نهج طاعة السلطة طمعًا في المناصب أو تجنبًا للمصاعب، لكن أصواتًا أخرى تبقى صادحة لا تفتر ولا تساوم وكتاب التاريخ يُسجل مختلف الروايات والحقائق

يُعمق كل هذا وجع عديد التونسيين وتزداد الأسئلة عن "ثمن الحرية" وثمن الدفاع عن أي حق وعن الضرورة والحاجة ومقارنات التاريخ والجغرافيا وحسابات الربح والخسارة.

تلتزم أصوات الصمت وتتخذ أخرى نهج طاعة السلطة طمعًا في المناصب أو تجنبًا للمصاعب، لكن أصواتًا أخرى تبقى صادحة لا تفتر ولا تساوم وكتاب التاريخ يُسجل مختلف الروايات والحقائق. ثمن الحرية/ثمن الحق سيدفعه الجميع، لكن الأثمان مختلفة كاختلاف ما سيُسجله التاريخ.