18-أكتوبر-2015

جمال الغيطاني

كنا ثلاثة أصدقاء نكتب الشعر، في المرحلة الثانوية، حيث الانتقال من العمودي إلى التفعيلة ضرب من التمرد، انحصرت قراءاتنا جميعًا على الشعر وحده، وكانت عوالم صلاح عبد الصبور وعفيفي مطر جديدة علينا تمامًا، وكنا مأخوذين بها كالمجاذيب في أرض غريبة، ولم تكن خيارات الرواية والقصة في دوائر اهتماماتنا، بعد عمر من "الأدب العالمي للناشئين" لم نكن بحاجة إلى "حكايات".

الغيطاني واحد ممن استطاعوا أن ينفذوا من السلطة المحفوظية ليكون له عالمه المتفرد

من الشعر الصوفي وافتتان كامل بمحيي الدين بن عربي، كنا نحفظ قصائده بلهفة، نثره نبصر فيه طاقات شعرية تحتاج وزنا وقافية. حتى وقع أحدنا على كتاب "التجليات" لكن دون اسم الإمام الأكبر، اسم آخر تبدو "مصريته" واضحة: جمال الغيطاني.. وبدأنا القراءة مأخوذين بلغة تشبه ما نحب لكنها ليست شعرًا وليست مجرد حكايات، إنها لغة مسبوكة من معجم كنا غرقى فيه، والكثير من التأملات التي جعلتنا نتبادل نحن الثلاثة قراءته على أيام.

"ما من شيء يثبت على حاله، لو حدث ذلك لصار العدم، كل شيء في فراق دائم، المولود يفارق الرحم، الإنسان يفارق من دنيا إلى أخرى مجهولة بلا آخر، يجيء شتاء، ويجيء صيف، ثم ربيع، ثم خريف، كل يفارق إلى حين، كل في فراق دائم، حتى الأشياء التي ظننا أنها لن تتبدل قط، ولن تتغير، ولن تزول، كل شيء يتغير.. فلنفهم" (كتاب التجليات).

هكذا حملت كتب الغيطاني شغفي باللغة والتصوف، عالم شديد البذخ أخذني إلى تفاصيله حتى امتلأت، ما بين "الزيني بركات" وكبير بصاصيه الذي ظننته حتى وقت قريب شخصية تاريخية حقيقية وهو من صنع خيال الغيطاني. رسالة "البصائر في المصائر" والشاب الخجول الذي أخذه العمل الفندقي إلى حيث يبيع جسده. "رشحات الحمرا" وعن نساء حياته أو آثارهم الباقية. "نوافذ النوافذ" وولع بالتشكيلي الأمريكي إدوارد هوبر، والنافذة بما هي مفتاح لوصل بين عالمين، منذ ولادته الأولى في الصعيد في بيت بلا نوافذ.

بقيت معي لغة الغيطاني فترة طويلة، أتأملها أكثر من استغراقي في حكاياته، غير أنه يفتنني بحكيه خارج السرد، في كتابيه عن نجيب محفوظ وهيكل، وهو يوجه الكبيرين إلى حيث تكون الحكاية ذات بناء متماسك، ثم كتب أسفاره وعلى رأسها "أسفار المشتاق" والبلاد التي زارها كيف يحولها إلى مشاهد يومية.

صرت مفتونًا بهذا العالم الروائي، رغم موقفي الحاد من منتج أدباء الستينيات السردي في مصر، إذ لا أرى فيه إلا خيالًا باهتًا لما قدمه نجيب محفوظ، وربما يصح ذلك التعميم على كثير منه، إلا أن الغيطاني واحد ممن استطاعوا أن ينفدوا من السلطة المحفوظية ليكون له عالمه المتفرد، على الرغم من أنه واحد من حرافيش محفوظ الكبار.

على أن الغيطاني سياسيًا جعل المسافة بيني وبينه كبيرة، وهو "المراسل الحربي" في حرب تشرين الأول/أكتوبر 73، ابن الدولة المؤمن بها إيمانًا مطلقًا، مثله مثل بقية جيله، يتامى المشروع الناصري، هؤلاء الذين انكسروا بعد الهزيمة لكن عقيدتهم الدولتية رتقت جروحهم، موقفه من السيسي والدولة في الوقت الحالي ليس غريبًا.

الغرابة كانت في الاتهامات التي لاحقته في التسعينات عن كتابته لرواية صدام حسين "زبيبة والملك" بسبب قوميته التي تسبقه، قربه من الأنظمة القومية العراقية والسورية والليبية، ظل ضلوعه في هذا الخراب محض تساؤل وإن كنت أميل لعدم تصديق ما قيل عنه، لأن اعتداده بموهبته أكبر من بيعها في أروقة السياسة، وإن كان موقفه السياسي مؤيدًا. يموت الغيطاني وله في قلبي وردة واثنتان، واحدة لـ"أخبار الأدب" التي تربيت على أعدادها الأسبوعية، والثانية للغته التي منحتني شغفًا كبيرًا باللغة وعينًا على السرد. 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

في ذكرى جمال الغيطاني.. 5 كتب يُنصح بقراءتها

البصاصون.. سدنة هياكل الاستبداد