25-سبتمبر-2023
غرافيتي في رومانيا

غرافيتي في رومانيا

"حتى سقراط نفسه، الذي يعشق الساحة العمومية، كان عليه، بالرغم من ذلك، أن يعود إلى بيته حيث سيكون وحيدًا، غارقًا في العزلة، كي يلاقي الآخر".

  • ح. آرندت

 

كتب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: "لم تعد المسألة اليوم هي أن ندفع الناس إلى أن يعبّروا عن أنفسهم، وإنّما أن نوفر لهم لحظات عزلة وصمت قد يعثرون فيها على ما يقولونه. إن قوى القمع لا تمنع الناس من أن يعبروا عن أنفسهم، وإنما ترغمهم، على العكس من ذلك، على التعبير. يا لها من راحة ألا يكون للمرء ما يقوله، أن يكون له الحق في ألا يقول شيئًا، لأنه، في هذه اللحظة بالضبط، وفيها وحدها، يغدو في الإمكان بلوغ هذا الأمر النادر، الذي ما يفتأ يزداد ندرة: أعني بلوغ ما يستحق أن يقال".

قد نستغرب أن تصدر هذه الدعوة إلى "الحق في الصمت"، بدل ما جرت عليه العادة من المطالبة بـ"الحق في الكلام"، عن فيلسوف لم يكن بعيدًا عن أيار/مايو 68 فكرًا وربما أحداثًا. غير أننا، إن دققنا النظر في قولته هذه، ربما تبينا أنه يدعونا إلى أن نميز بين كلام جاهز نُدفع إليه دفعًا، وتعبير يتولد عن رَوية وإعمال فكر. إنه يطلب منا، على حدّ قول أحد قساوسة القرن الثامن عشر، "أن نعمل على إسكات اللغة، كي نفسح المجال لحديث الصمت".

يريد صاحب "الاختلاف والتكرار" أن يبعدنا عن لغط الكلام الذي تدفعنا إلى ترديده الأجوبة الجاهزة، والأفكار المنقولة، والشعارات المرَددة، والتي تعمل على غرسها في عقولنا وأفواهنا قوى القمع، بأشكالها جميعها، وخصوصا الرمزية منها، تلك التي تدين بتطابق الفكر، وأحادية الرأي، وتجر رواسب التقليد، وتكرس مظاهر الوثوقية.

ليس الصمت مجرد سلب، مجرد غياب للكلام، إنه ليس خواء وعدمًا، بل إنه يتمخض عن فعالية وينطوي على قوة وبلاغة. وهذا أمر يدركه أصحاب الموسيقى الذين ينظرون إلى مقاطع الصمت على أنها مقاطع من المعزوفة الموسيقية

في هذه الحال يغدو "الخلود إلى الصمت" فضيلة، فلا نعود ننظر إليه على أنه مجرد "غياب للكلام"، إذ ندرك أن له بلاغة وقوة تعبير قد تضاهي، أو تفوق في بعض الأحيان، بلاغة الكلام ذاته. ذلك أن غياب الكلام يترك المجال، في كثير من الأحيان، لمزيد من المعنى. من هنا فعالية الصمت وقدرته على تطهير الكلام، بل على توليده.

ليس الصمت، والحالة هذه، مجرد سلب، مجرد غياب للكلام، إنه ليس خواء وعدمًا، بل إنه يتمخض عن فعالية وينطوي على قوة وبلاغة. وهذا أمر يدركه أصحاب الموسيقى الذين ينظرون إلى مقاطع الصمت على أنها مقاطع من المعزوفة الموسيقية، وليس على أنها توقّف لتلك المعزوفة.

ربما لا يكون في استطاعتنا أن ندرك قوة الصمت هذه ما دمنا نقتصر على النظر إلى الثنائي كلام/صمت على أنّه ثنائي منفصل بحيث يحول طرف من الطرفين دون الآخر. لكن، ما دمنا نسعى أن نوازن بين الطرفين بإعلاء طرف على حساب الآخر، وما دمنا نحدّد الصمت فقط على أنه سلب وانفعال و"غياب"، وليس امتلاء وفعالية، فإننا سنظل نتأرجح بين طرفين منفصلين لا تركيب بينهما، ولا نقطة تماسّ تجمعهما. أما إن حاولنا أن نفكّك هذا الثنائي الميتافيزيقي، فإننا سنميّز بين صمت وصمت: صمت يتكلم لأنه جزء من الكلام وليس طرفه المقابل، وصمت أخرس، لأنه لا يتلبس الكلام. سيغدو التقابل إذًا، لا بين الكلام والصمت، وإنّما بين الصمت والسكوت. ذلك أن الصمت عندما ينبذ الكلام يغدو سكوتًا mutisme. والسكوت هو إرغام على الصمت أو، على الأقل، اضطرار إليه، وعجز عن التكلم.

يقال إن اللغة العبرية تطلق الكلمة نفسها على السكوت وعلى العنف. ذلك أن السكوت هو في الغالب إسْكات، إنه عنف ومنع واضطهاد. لا عجب أن تؤدي حالات السكوت إلى أعمال عنيفة، وأن يقترن التطرف بالسّكوت المطبِق والامتناع عن الانخراط في أي شكل من أشكال الحوار.

تجنبًا لهذا العنف يكون علينا "تحرير الكلام" كما تقول العبارة الفرنسية libérer la parole. شريطة أن يكون التحرير بالمعاني جميعها، أعني أن نطهّره من شوائب الوثوقية وترديد الشعارات، فلا ننقاد إلى ردود الأفعال الآنية، وإنّما نصوم عن اللغو، ونخلد إلى صمت منتج. آنئذ، وآنئذ فحسب، يغدو الصمت مناسبة لـ"بلوغ ما يستحق أن يقال".