09-ديسمبر-2018

تصوير: عمار وإيزابيل غوين

يشهق النهار آخر آهاته المبذولة، لتوه يلثم الشارع أحذية العابرين، يومك يمضي بطيئًا، كأنه يجر على ظهره هموم الدنيا، يزدحم المكان بالإلفة والأبقار الآيبة من المرعى، يشتهى ذلك الراعي وقفتك، وتشتهي أنت وجبة ساخنة بالحليب والدُخن على كوريته، هو يسَرح بالأغنام، وأنت تسرح ببنات أفكارك، تدللهن تغسل ضفائرهن بالمطر، وتلك حيلتك القديمة إذ يبدو.

يرمقك عمود الإنارة بمقلة مُتسعة من البلور، يفض رغبتك العميقة في التحديق، تعبرك طفلة عارية القدمين، تقفز على مقربة في منعرج الخِفةً والذهول، يختبئ ظلها في الأنحاء المكهربة، تشعر بهزة التيار المحمول على الأسلاك، يعبرك عجوز هائم في طريقه إلى المسجد، يلقي عليك السلام، ولا يلتفت نحوك، تعبرك سحابة سوداء كانت فكت أزرارها وبللت الحقول، يعبرك طير السنبر والرهو القادم من بعيد، يعبرك كيس نايلون منتفخ برياح بلهاء، تصُلب ظهرك على هذا الإسمنت المُتحجر، تمعن فيه وهو يصرف شؤونه على نحوٍ غامض.

يلتهم عمرك باشتهاء غريب! تدنو مستورة من الشارع، مستورة الفاتنة في مشيتها، المكتنزة بالصحة والمرح، يتسع قلبك لصوت حذائها، ترمقك بنظرة جريئة فيتحد الأرضي من سلك النور بالناري من لحاظها، يتوهج دمك، تشهق شهقتك المميتة، ما يزال ماثلًا في لسانك طعم حديثها اللاسع، يزدحم المكان بأواني الحليب الفارغة المتلاصقة، يزدحم وجهك بالصور والغبار، كنت ممتلئًا بالناس والأشياء، تنتظرها بشوق المادحين للطار، يعبرك كلب صغير بالكاد يلهث، يعبرك الصمت المتكالب في حدود سكينته المتكالبة، ثمة مطر ينهمر فوقك كغشاوة متواصلة، يعبرك الحزن بحافته المسنونة، يرتاح عليك فتشربه على مهلٍ.

من بعيد تغمرك ضحكتها المعطنة بالشجن، وما هى سوى تلك البنت التي كانت تعرف كيف تطل وتعبث بأنفاسك، كانت إذ تطل عليك تتجمد أنت كالثلج وتتهشم بعدها كالثلج أيضًا، تتوار ريثما تتصفح كل الوجوه، يحيلك للتحديق عواء سيارة ممتلئة بالمسافرين المتعبين، تفرغ حمولتها في طرف الشارع، يعبرك الظلام الهارب من أنجم مُتداعية، تضيء الذاكرة ليالي سهراتها الحمراء، تعبرك جمهرة طلاب قنعوا للتو من دروسهم، يعبرك فلاح جائع بعد يوم طويل من الحصاد، تعبرك دلالية مشرئبة للربح الفاحش، تعبرك قابلة غارقة في صراخ المواليد، يعبرك صانع الآسرة بأصابعه الفاترة، يعبرك الشارع كله.

ترش الباحة قبالة المنزل بالماء، ليخضر عمود الإنارة، وهل يخضر؟ وهل يتكاثر؟ لا بد أنه يفرغ شهوته المجنونة في الأرض، ولا بد أن الأرض حُبلى منه. تفكر أن تقضي ليلتك هنا ليحكي لك ما لم تكن قد رأيته بالأمس، عندما يختلي الناس بالشوارع ماذا يفعلون؟ يلقون بقايا الطعام والشراب خارج براميل القمامة، لأن أحدًا لم يرهم يفلتون، الشارع قبل أن يتسخ بالمارة، وكيف كان هذا الإسمنت المصلوب يراقبهم. يسامر الأنجم المخلوقة للسمر، ينشق فيغمر البيوت نور راعش مفزع، يهفهف رأسك برغبة في أن تصلب جسدك على العمود، وتتحدان معًا، لتر كل شيء عبره؛ كنت إذ تفكر تتماهى مع صديقك الذي لا يتكلم، يلتصف هيكله بشخبطة قديمة، مخلوق من إسمنت وخرصانة، لا يتلكم أبدًا، ويحس بالمواجع، مكتوب على صفحته الناصعة رسالة لمحبوبة لم تفضها بعد، ولربما كانت قرأتها واكتفت بالضحك الماكر، يرسم عاشق اسمها بالطبشور فيغطي عليه آخر بالفحم، في مؤامرة التعتيم على الحكاوي الخاصة جدًا.

لكنك لا تعرف كيف يحتمل صديقك نزق المتخفين ولا يجأر بالشكوى، يبثونه عاطفتهم المشبوبة، ذلك هو مصدر طاقتة المكبوتة غالبًا، بحيث ينتصب بكل هذه المشاعر، بكل هذا الشموخ الخرصاني، يتسع للاعتراف مثل جدار كنيسة عتيقة، ولكن هل رأيت فتاة تختلي به وتشخبط دون أن يشي بها، أو تعرف كيف كان العمود يقف عندما لم يكن عمودًا، ممددًا في شباك حديدية، وهل شاخ فجأة وتجمدت عروقه؟ كنت إذ تلوح له في صمت هائل، لا يأبه بك، بيد أنك عندما تفكر في أن تشيح بوجهك عنه، يشدك عليه بقوة ويقول لك مازحًا ربما: شكرًا، رأيت عبرك كل شيء دون أن تعبرني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محاولة لرسم المحيط والأشجار

فكرتنا النادمة عن الوحدة!

دلالات: