15-سبتمبر-2023
كلمة ترند كلمة عربية

في منتصف القرن الماضي، أقر مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وكان ما يزال يعرف باسم مجمع فؤاد الأول، عددًا من الكلمات المتداولة التي لم تكن قد شملتها القواميس بمعانيها المحدثة والواردة من مفاهيم أجنبية. من ذلك كلمة "ثقافة"، بدلالتها المألوفة اليوم رغم أنها بمصدرها مستخدمة منذ القرن السابع للميلاد بمعنى "الحذق والمهارة" بحسب معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، كما استخدمت أول مرة بمعنى العلوم والمعارف والفنون في منتصف القرن الثالث عشر، في واحدة من المقامات الزينية لابن الصيقل، حين قال: "سبحان من سلب سنا حسّك السليم، وألجأ عوج حدسك إلى العتاب الأليم، وأحوج عوج نفسك إلى ثقافة التعليم"، وذلك بحسب ما نقلها المعجم التاريخي للغة العربية في الشارقة، والذي وثّق كذلك ذكرها بمعناها المعاصر لأول مرة في تخليص الإبريز لرفاعة الطهطاوي في منتصف القرن التاسع عشر.

ليس للمجمع موقع إلكتروني فعّال أصلًا، وهذه كارثة مؤسفة، تحول دون تيسير الاطلاع الجادّ على موقف المجمع وخبرائه من المسائل اللغوية العديدة التي يعالجها، ويعيق التواصل الفعّال مع الجمهور المهتمّ

أقر المجمع حينها أيضًا توليد كلمات ودلالات لم تمرّ دون إشكالات من فقهاء اللغة ومشكلات بينهم، منها كلمة "الجسر" و"الكوز" و"الرصيف" و"المتحف" و"القنبلة" و"التأميم"، أما من الأفعال فناقشوا "بستر" و"تلفن" و"كهرب"، كما أجاز المجمع اشتقاق الفعل "فبرك" بمعنى "صنّع الشيء بالآلة"، ولا نعرف إن كان قد نوقش مؤخرًا بمعنى "صنع خبرًا كاذبًا". في المقابل، رفض المجمع حتى ذلك الحين كلمات أخرى مثل "مقهى" لصالح "قهوة" التي ما تزال صامدة حتى اليوم، لكن بالعامية لا بالعربية المعيارية المعاصرة. المفارقة هنا هي أني وقعت قبل يومين على كتاب رسميّ في دولة عربية، يتضمّن قرارًا بإغلاق "الكوفيّات"، وهو الجمع الشائع لكلمة "كافيه" في العراق اليوم.

أمّا مؤخرًا، وبعد انقضاء قرن تقريبًا على تأسيس المجمع، يستمر الأساتذة القائمون عليه بمحاولة تقديم المقترحات اللغوية بالتفاعل مع الوضع القائم، بهدف تطوير القدرة المعجمية العربية ضمن آليات منضبطة بقواعد القاموسيّة العربية الحديثة، فيصححون كلمات ويخطئون أخرى، مع ميل واضح إلى التصحيح والتساهل مع الشائع كلما أمكن، والبحث عن مسوّغات له، مع انفتاح مقصود على باب الوضع والتوليد والاشتقاق، ورفض أن يقتصر القياس على المسموع في اللغة العربية التراثية، وإطلاق السماع في مختلف الموضوعات، ولاسيما المرتبطة بالعالم الرقمي والروائج في الثقافة والموضة والتقنية وبالمتداول بين الأجيال الشابة. فاللجنة المعنية بهذا الأمر، هي لجنة الألفاظ والأساليب، ويقدم أعضاؤها مقترحات تعرض على اللجنة ذاتها وتخضع للنقاش فيها، قبل أن يعتمدها المجلس العلمي في المجمع ومؤتمره أو يرفضها، مع تفصيل في حالة القبول بين الفصيح والصحيح والمقبول. من هذه الكلمات مثلًا "ترويسة" و"ترميد" (تحويل الشيء إلى رماد) و"ترفيق" المكان، أي إقامة المرافق فيه، وكلمة "استعبط" التي اقترحها المجمع العام الماضي، والفعل "أجّز"، بمعنى انقطع عن العمل للراحة، وقبلها "أدلج" و"أتمت" والعديد من الكلمات التي باتت مستخدمة وشائعة في الكتب والصحف ووسائل الإعلام ولو أنها ظلت خارج النسخ المحدّثة من القواميس العربية.

فالخبير اللغوي يعمل على تقديم المصطلح مشروحًا للجنة المختصة، ويعرض الحاجة للكلمة ويفصّل في تعريفها ووجه الاعتراض الممكن عليها ووجه إجازتها، وهذا جميعًا في مرحلة الاقتراح والنقاش وتقديم الملاحظات والاعتراضات، وهي مرحلة يفترض أنّها تسبق إقرار الكلمة رسميًا ونشرها في مجلّة أو معجم، وهذا ما لا يحصل عادة وتتعذّر متابعته بالنظر إلى ضعف إصدارات المجمع ومنتجاته بصيغها الرقميّة، إذ لا تتوفر حتى اليوم بوابة إلكترونية للمعجم الوسيط، ولم يصدر مطبوعًا إلا في خمس طبعات منذ العام 1962، لا تخلو جميعها من العديد من المشاكل. 

ورغم أن المجمع بصفته الاعتبارية هو المؤهّل لأداء دور "التهيئة اللغوية" لتوليد الألفاظ الجديدة التي تطرأ الحاجة لاستخدامها أو تفرض نفسها عبر تداولها واصطلاح مجتمع المستخدمين عفويًا عليها، إلا أنّه ذهب بعيدًا في الآونة الأخيرة بتقدير كثيرين، حين اقترح  اقتراض كلمة "ترند" وإجازة استخدامها، فصار مجمع القاهرة "ترندًا" كما يبيح لنا أن نقول، حين اعترض كثيرون على الاقتراح، رغم كونه اقتراحًا وحسب، وتفجّرت قرائح "التايملاين" (لو أن المجمع يجيزها!) في تويتر عن مقترحات عربية بديلة، منها "رائج، متداول، ذائع، ذروة، صيحة، موجة، هبّة!"، ثم بالغ آخرون بالتحذير من إدخالها في المعجم الوسيط، علمًا أنه لا يصدر محدثًا إلا كل عقد على الأقل، وليس له موقع إلكتروني يتيح فرصة التحديث الدوريّ كما ذكرنا، مثلما هو متاح للقواميس اللغوية المعاصرة في اللغات الأخرى. 

لا أعرف مقابلًا عربيًا مفردًا للفظة "تريند" وما تعبّر عنه في العالم الرقمي. أستطيع كما فعل غيري التفكير ببدائل عنها، لكنها جميعًا تكاد تكون أشبه بمحاولة استبدال كلمة "التلفزيون" بكلمة "الرائي" أو "مرناة"، ولا شكّ أنّه أوضح للمخاطَب وأسهل للمخاطِب (حاليًا) أن يقول مثلًا "تحوّلت القضيّة إلى ترندٍ في منصات التواصل"، ولن يقوم مقام هذه الكلمة في هذا المثال أي بديل مفرد أكثر كفاءة. ليس ذلك لأنّ الكلمة في جوهرها أفضل من مقابل عربيّ، بل لأنّه ليس ثمّة أي مقابل عربيّ رائج قد استقرّ في الاستخدام بين مجتمع المستخدمين، بحيث يقوم مقامها ويسمح بإلغاء الكلمة الدخيلة لصالحها. 

صحيحٌ أنّ الإيقاع الصرفي للكلمة أجنبي، خاصّة أنّها تبدأ بساكن، وهو ممتنع عادة في العربية الفصيحة، ولذلك اقترح المجمع لتقريب الكلمة إلى اللغة المعيارية وتخفيف نطقها كسر التاء وضبط الكلمة على "تِرِند"، مع أنّ كسر فاء الكلمة وعينها قليل جدًا في اللغة العربية، والأقرب للعربية الحديثة هو إضافة همزة وصل، "اتْرند"، لتكون مثل "استديو" و"استراتيجية"، لكن الكلمة تظل ضرورية، أو هكذا يجادل البعض، ويمكن القبول بها في الحالتين، ولا يعيب ذلك المجمع ولا الأستاذ الذي اقترح الكلمة، ما دام أن الضرورة دفعته لاعتماد هذه الآلية المعروفة في تنمية المعجم، والتي عرفتها اللغة العربية منذ عهود قديمة جدًا، حالها في ذلك مثل حال أية لغة طبيعية. 

يحاول مجمع اللغة العربية في القاهرة، "مجمع الخالدين"، والمجامع والمؤسسات اللغوية العربية الأخرى، أن يبقى ذا صلة وتأثير أمام سؤال صلاحية اللغة العربية لهذا العصر والتشكيك في قدرتها على التعبير عنه، وتسعى هذه الهيئات ومن يقوم عليها من كبار علماء اللغة، رغم الموارد المحدودة لدى بعضها وضعف التنسيق بينها وقلة الإنفاق عليها، للتأكيد على "صلة الماضين بشؤون الباقين" واللاحقين من الناطقين بالعربية في هذه الحقبة الصعبة، والتأكيد على ثراء هذه اللغة وحيويتها، وضرورة عدم انقطاع التفكير بها، رغم كل التحدّيات والكوارث السياسية والمجتمعية والاقتصادية في المنطقة، باعتبارها أساسًا لا بديل عنه للهوية العربية وحافظًا للثقافة المشتركة. وهنا قد يجدر التذكير بأن الوسيلة التي يسلكها المجمع المصري العريق لأداء دوره التثقيفي العام بشأن اللغة العربية، هي مجرّد صفحة على منصّة "فيسبوك"، نجد عليها التحديثات والأخبار والتعليقات والتوضيحات. فليس للمجمع موقع إلكتروني فعّال أصلًا، وهذه كارثة مؤسفة، تحول دون تيسير الاطلاع الجادّ على موقف المجمع وخبرائه من المسائل اللغوية العديدة التي يعالجها، ويعيق التواصل الفعّال مع الجمهور المهتمّ والتماس المقترحات والتصويبات منهم، وتمنع الاطلاع على مشاريعه ومحاضر اجتماعاته ومنشوراته، ويجعله وأعماله مجرّد "ترند" عابر.