23-يونيو-2021

رواية "قلوب الناس المُعذَّبة" (ألترا صوت)

ألترا صوت – فريق التحرير

تستعيد هذه المساحة الأسبوعية، كل أربعاء، ترجماتٍ منسية مختلفة الاتجاهات والمواضيع، كُتب لها أن تؤدي دورًا معينًا في لحظةٍ ما، قبل أن يطوي الزمن صفحتها فيما بعد، لتصير ترجماتٍ "طي النسيان"، بعيدة عن اهتمامات الناشرين العرب. إنها، بجملةٍ أخرى، مساحة يخصصها "ألترا صوت" لرد الاعتبار لهذه الترجمات، عبر لفت انتباه القراء والناشرين العرب إليها، في محاولةٍ لجعلها قيد التداول مجددًا.


في عام 1900، وصل الروائي الياباني ناتسومي سوسيكي (1867 – 1916) إلى العاصمة البريطانية لندن موفدًا من وزارة التعليم اليابانية لدراسة اللغة الإنجليزية. وخلال سنوات الدراسة الثلاث تلك، خَبِرَ سوسيكي أزماتٍ نفسية عديدة، مردُّها أوضاعه المعيشية وفشله في إقامة علاقاتٍ اجتماعية مع البريطانيين، الأمر الذي دفعه إلى الانطواء على نفسه، والانعزال عن الآخرين طيلة تلك المدة.

ليست "قلوب الناس المُعذَّبة" تحليلًا سيكولوجيًا كما يتصور القارئ للوهلة الأولى، بل هي غوص في أعماق الروح الإنسانية

وفي محاولةٍ منه لتجاوز الاكتئاب الذي لَحِق به آنذاك، انكب الروائي الياباني على الأدب، وأنجز خلال تلك المدة ثلاث دراساتٍ تناولت نظرية الأدب، والنقد الأدبي، وواقع الأدب الإنجليزي في القرن الثامن عشر. ورغم أهميتها، لم تلق دراسات سوسيكي اهتمامًا يُذكر، ولكنها، على الأقل، مهدت طريقه نحو عالم الأدب الذي دخله من بوابة الرواية هذه المرة.

اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: مدخل إلى ما بعد الحداثة

عاد سوسيكي إلى اليابان في عام 1903 محملًا برغبته في كتابة عملٍ روائي. وبعد نحو عامين، أصدر الجزء الأول من "أنا هر" الذي يُعتبر عمله الروائي الأكثر شهرةً، ثم أصدر في العام التالي، 1906، روايتين هما: "السيد الصغير"، و"وسادة من عشب"، إلى جانب "الجرو الوحشي"، و"عامل المناجم"، و"سانشيرو"، و"البوابة"، و"المتجول"، وغيرها من الروايات التي صدرت منذ عام 1907 وحتى وفاته في كانون الأول/ ديسمبر 1916.

"قلوب الناس المُعذَّبة"، هو عنوان رواية ناتسومي سوسيكي التي صدرت قبل نحو عامين من وفاته، والتي تُعتبر من أكثر رواياته صعوبةً لناحية الترجمة، إذ تضم بين دفتيها تعابير بسيطة، بل وعادية، إلى جوار أخرى تتسم بالعمق والكثافة والغموض بحسب مترجميها. 

الرواية التي صدرت الطبعة الثانية من نسختها العربية عام 1993، عن "منشورات وزارة الثقافة" في العاصمة السورية دمشق، تبدو، وبحسب مترجمها علي باشا، أقرب إلى: "وثيقة خاصة ذات قيمة استثنائية، فهي على الأقل زاوية يتلاقى فيها الطابع الإنساني مع الطابع العالمي"، عدا عن أنها مساحة يمكن فيها معاينة: "مأساة التفكير".

تروي "قلوب الناس المُعذَّبة"، قصة شابٍ يلتقي مصادفةً بشخصٍ ذو سلوكٍ غريب، سيصير فيما بعد، وبسبب سحره وجاذبيته، معلِّمه ومرشده الأعلى، بل ومحور حياته أيضًا، إذ سيجد نفسه مدفوعًا نحو اكتشاف السر وراء هذا السلوك والغرابة التي تسم حياة المعلِّم.

هذه الرغبة باكتشاف المخفي، هي العنصر الذي ستُبنى عليه رواية ناتسومي سوسيكي، لا سيما وأن الشاب سيكتشف أن ما يسعى وراءه إنما هو مجموعة هائلة من الألغاز التي لا يمكن تفسيرها وفك شيفراتها إلا بمساعدة المعلِّم نفسه، دون أن يبدي الأخير أي تجاوبٍ تجاه رغبات تلميذه، الأمر الذي سيولِّد حكاياتٍ وأحداثٍ جديدة قائمة على محاولات الشاب المستمرة لاكتشاف أسرار معلِّمه.

تنتهي هذه المحاولات عند تسلِّم الشاب رسالةً من معلِّمه الذي اختتمها بهذه الجملة: "عندما ستصبح هذه الرسالة بين يديك، لن أكون، أنا، في هذا العالم: سأكون قد مت منذ زمنٍ طويل". ورغم إجابة الرسالة على تساؤلات الشاب وحلها لجميع الألغاز التي سعت خلفها، إلا أنها جعلت من حياته وسلوكه ودوافعه نحو الانتحار أيضًا، معقدة وغامضة أكثر من أي وقتٍ مضى.

"قلوب الناس المُعذَّبة"، هي رواية تقوم قصتها وحبكتها وأحداثها أيضًا، على فكرةٍ مفادها أنه: "عندما يشعر أي إنسان بعمق بالخطيئة التي تدمغ الإنسان، فإنه ينزوي في سجن الوحدة، وبعد قليل يقتل نفسه"، بحسب ماجاء في تقديم تانيكاوا تيتسوزو للعمل.

الرغبة والفضول باكتشاف ما هو مخفي وغامض هو العنصر الذي يُحرِّك أحداث رواية "قلوب الناس المُعذَّبة"

ويضيف: "الشخصية الرئيسية في الرواية، وقد خانها المقربون منها، تبدأ بأن تخلع عنها بنفسها التقدير الذي كانت تنظر به إلى عالم بني البشر. ولكنها، يصل بها الأمر، شيئًا فشيئًا إلى أن تخون هي نفسها أفضل أصدقائها: عندئذٍ تخلع عن نفسها أيضًا التقدير الذي كانت تنظر به إلى نفسها. وخطيئة الإنسان تقع عليها".

اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: فكر غرامشي

ووفق كلمة الناشر، ليست رواية ناتسومي سوسيكي: "تحليلًا سيكولوجيًا كما يتصور القارئ للوهلة الأولى، بل هي غوص في أعماق الروح الإنسانية بأسلوب فيه من الإرهاف في التحليل التطهيري، ما يعطينا صورة عن علائق البشر ببعضهم – المعلِّم مع تلميذه، الزوج مع زوجه، الابن مع أبيه – فيها من الدقة ما لا يجيده إلا بعض الكتَّاب اليابانيين وما يلازمهم من شعورٍ دقيق بالمصير الإنساني وهو يتحقق عبر الأفراد". إنها، وبجملةٍ أخرى، روايةُ: "جيلٍ أنهته الحرب العالمية الأولى. ومعت ذلك فلم يجد المفكرون اليابانيون أثرًا يُعبِّر عن حقيقتهم إلاها".

 

اقرأ/ي أيضًا:

تُرجم قديمًا: جنة عدن

تُرجم قديمًا: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث