31-يوليو-2016

توفيق الحكيم

القاص المسرحي والفيلسوف الحكّاء 
 
قبل ذهابه إلى فرنسا كان يكتب مسرحيات للتسلية لا تحتوي على مواقف أو قضايا فكرية، لكن بعد عودته واستيعابه للثقافة الفرنسية واليونانية بدأت مرحلة جديدة من حياته، أراد فيها أن يؤسس مسرحًا يستمد أفكاره من المسرح الفرنسي واليوناني القديم، ثم يحول تلك الأفكار إلى عوالم أخرى يرسمها هو بقلمه الخاص، ففي رأيه من أحد أهم الأسباب التي أدت إلى تخلف الأدب العربي هو انقطاعه عن الأدب الغربي، لذا اتجه إلى التراث العالمي يستوحي منه أفكارًا لمسرحياته.

خرج نجيب محفوظ من عباءة "عودة الروح"، ويوسف إدريس خرج من عباءة "يوميات نائب في الأرياف"

فكانت البداية مع مسرحية "أهل الكهف"، وعندما نشرها أحدثت ضجة كبيرة لأنها لم تكن على نفس النمط القديم القائم على الميلودراما الزاعقة والحوارات السطحية، وقال عنها "طه حسين" بأنها بمثابة فتح كبير في مجال المسرح العربي لأن القارئ يجد فيها غوصًا في الأفكار والمعاني، وسأله توفيق الحكيم: كيف تكون أهل الكهف فتحًا جديدًا والمسرح موجود قبله بعشرات السنين، لكنه أوضح أن أهل الكهف بداية المسرح المؤلف، بعدها تتابعت أعماله الخالدة مثل "السلطان الحائر"، "أوديب"، "بنك القلق"، "بيجماليون".

اقرأ/ي أيضًا: توفيق الحكيم.. عصفور على خشبة المسرح (1- 2)

كان "الحكيم" كما جاء في كتاب "توفيق الحكيم يتذكّر" للغيطاني: "يؤمن بأنه لا يخلق الأسلوب الحق إلا الكاتب الصادق في شعوره وتفكيره إلى حد ينسيه أنه ينشئ أسلوبًا، وأن البلاغة الحقيقة هي الفكرة النبيلة في الثوب البسيط، هي التواضع في الزي الرسمي والتسامي في الفكرة، وأن اللغة يجب أن تكون أداة بسيطة لنقل الأفكار والصور، لأن اللغة المتكلفة لو كتب بها شخص اليوم لأثار سخرية الناس".

لذا كانت جاذبية "الحكيم" أشد جذبًا من المغناطيس فمعه تستطيع التحليق عاليًا في سماء الفكر ثم يشدك بأناة ورفق مرة أخرى إلى عالمه حتّى لا تحلق بعيدًا فتنكسر فيك أشياء ربما لا تقدر أن تعالجها.

يقول الكاتب خيري شلبي في كتابه "عناقيد النّور": "مسرحيات توفيق الحكيم تعتبر من عيون الأدب العربي بل والعالمي، يكفي أن تمسك أي عمل من أعماله حتّى تجد في ظهرها كمّ اللغات التي ترجمت إليها، الأمر الذي لم يتأتَ للكثير من الكتاب قبله، فيعتبر أكبر واجهة للأدب العربي، وأول من عرفه العالم من الأدب العربي الحديث، أما رواياته "عودة الروح"، و"يوميات نائب في الأرياف"، فتعتبر أول بناء معماري لفن الرواية على أصوله المرعية في الثقافة العالمية، وفي حديث صحفي له ذات مرة قال: إن نجيب محفوظ خرج من عباءة "عودة الروح"، ويوسف إدريس خرج من عباءة "يوميات نائب في الأرياف".

كان توفيق الحكيم يؤمن أن البلاغة الحقيقة هي الفكرة النبيلة في الثوب البسيط، والتواضع في الزي الرسمي والتسامي في الفكرة

لكن على الرغم من ذلك اتهم مسرح "توفيق الحكيم " بأنه مسرح ذهني خالص فهو عبارة عن أفكار تتجادل وتتحاور، لكن الدكتور "علي الراعي" في كتابه "توفيق الحكيم فنان الفرجة والفكر"، حاول أن يثبت بالفحص النقدي الدقيق أن مسرح توفيق الحكيم مليء بعناصر الفرجة، التي من الممكن أن تجذب الجمهور وتسليه، بالإضافة إلى قيمتها الأدبية العالية، وربما يكون السبب في ذلك هو أن الجمهور الذي اعتاد على مسرح الميلودراما والغناء والرقص صعب عليه أن يستوعب مرة واحدة المسرح الفلسفي لتوفيق الحكيم.

اقرأ/ي أيضًا: أسواق الكتب القديمة.. حياة في مكان آخر

بخيل وملحد وعدو للمرأة وضد عبد الناصر 

لم يكتف الناقدون بمهاجمة مسرحه فقط، بل إن النقد والتهم وُجهت إلى شخصه أيضًا، فكانت من أكثر الاتهامات التي وجهت إليه هو اتصافه بالبخل، وتلك صفة قبل أن تكون لصيقة به قد وجهت قبلًا إلى والده، وقد حاول أن ينفيها عن والده وعنه، فيرى أن البخل مقترن بالرغبة في كنز المال وهو لم يكن لديه الكثير من المال ليكنزه، فقد كان متوسط الحال، كل اعتماده كان على راتبه البسيط فقط، في مقال قديم لـ"أنيس منصور" بعنوان "كانوا بخلاء وكانوا ظرفاء أيضًا" ذكر أن طه حسين قال لتوفيق الحكيم ذات مرة: إنك لست بخيلًا لأن عندي ما يثبت ذلك، ولكنك لا تحب أن يتحدث الناس عنك.

أما كونه ملحدًا فذلك بسبب مقال كتبه يحمل عنوان "حديث مع الله"، حينها هاجمه الشيخ الشعراوي قائلًا: لقد شاء الله ألا يفارق هذا الكاتب الدنيا إلا بعد أن يظهر للناس ما يخفيه من عقائد كان يتحدث بها همسًا لم يكن يجرؤ على نشرها. ورد عليه "توفيق الحكيم" ببلاغ قدمه إلى النائب العام، وأن تلك التهمة مردود عليها بالعديد من السوابق المتواترة في التراث الإسلامي منها مؤلفات محيي الدين بن عربي والحلاج وغيرهم.

توفيق الحكيم: خوفي من الموت مرتبط بشيء عضوي أو شيء ما في اللاوعي، ومع تقدم العمر تضاءل هذا الشيء كثيرًا

واتهم أيضًا بأنه "عدو المرأة" بسبب موقفه العدائي من الحركة النسائية التي قامت بها "هدى شعراوي"، فكان دائمًا ما يقول "لا .. للسفور"، كما في مسرحيته "المرأة الجديدة"، وأوضح الكاتب "محمد السيد شوشة" في كتابه "نساء في حياة عدو المرأة"، بأن توفيق الحكيم نقد نفسه بعد ذلك نقدًا لاذعًا بسبب موقفه العدائي من حركة "تحرير المرأة"، التي قام بها "قاسم أمين" ولحسن حظه أنه كان في فرنسا وقت أن عرضت تلك المسرحية.

اقرأ/ي أيضًا: غسان كنفاني.. الإقامة في زمن الاشتباك

كان "توفيق الحكيم" مقربًا من نظام عبد الناصر، خصوصًا بعد أن سمع مرة من "جمال عبد الناصر" أنه في شبابه قرأ كتابه "عودة الروح"، وعندما تعرض لخروجه من وظيفته في حملة تطهير الصحف بعد الثورة قال عبد الناصر: "توفيق الحكيم هو الذي أجج عواطفنا بالوطنية ونحن شباب". لكن النقد الذي وجهه فيما بعد توفيق الحكيم في كتابه "عودة الوعي" كان ينتقد فيه تذبذب النظام بين الاشتراكية والرأسمالية فيما أسماه بـ"الاشترأسمالية"، ورد على تلك التهمة قائلًا: لم يكن هدفي التشهير بعبد الناصر، بل كنت أريد استرجاع بعض سلبيات التجربة.

في انتظار اللقاء

يقول توفيق الحكيم: "إن خوفي من الموت مرتبط بشيء عضوي أو شيء ما في اللاوعي، ومع تقدم العمر تضاءل هذا الشيء كثيرًا، خصوصًا بعد رحيل ابني إسماعيل وزوجتي -رحمهما الله- أما أنا فالعمر بالنسبة لي فترة انتظار للقائهما.

ويعلق جمال الغيطاني على اللحظات الأخيرة في حياة "الحكيم" قائلًا: رغم تجاوزه منتصف العقد التاسع كان صافي الذهن، ثاقب البصيرة، شديد الحيوية، وفي أيامه الأخيرة مرض مرضًا ألزمه الفراش شهورًا، فذهب نجيب محفوظ لزيارته وعندما اقترب منه، قال له توفيق الحكيم "أنت مين"، حينها خرج نجيب محفوظ من الغرفة حزينًا وهو يردد "رحمة ربنا أفضل"، وبالفعل سرعان ما شملته رحمة الله كي تخلصه من دنيا ضاقت به وضاق بها، فرحل عن عالمنا كما لو كان فصلًا أخيرًا في واحدة من مسرحياته يُرخى بعده الستار بعد أن ذيله بكلمة "تمت"، معلنًا بذلك أنها النهاية، كان ذلك في السادس والعشرين من تموز/يوليو 1987.

المصادر:
1- توفيق الحكيم يتذكّر- جمال الغيطاني 
2- عناقيد النور- خيري شلبي 
3- نساء في حياة عدو المرأة- محمد السيد شوشة 
4- توفيق الحكيم فنان الفرجة والفكر- علي الراعي 
5- كانوا بخلاء وكانوا ظرفاء أيضًا- مقال لأنيس منصور 

اقرأ/ي أيضًا:

"غوستاف لوبون" أمام لجان الثانوية العامة!

الطنطورية باكية في ذكرى ميلاد السيدة