28-يوليو-2016

غرافيتي في القاهرة

ليس من السهل أن تقتحم عالم الماضي فجأة تستدعي منه ذكريات كادت أن تندثر تحت غبار التفاصيل وتأتي بها إلى حاضرك في محاولة منك لانتزاع تلك الذكرى من خاصرة النسيان، وإعادتها مجددًا إلى الحياة لفترة قصيرة، أنت بذلك لا تعطيها الحياة المطلقة، إنما هو شيء أشبه بتحريك المياه الراكدة حتى لا تتبخر فتضيع بين التفاصيل، أو تهبط إلى الأرض حيث لا حياة بعدها، شيء واحد يعزز وجودك وبقاءك هو أن تخلف وراءك ما يحيل حياتك بعد موتك إلى مئات بل آلاف الحيوات، كأن تخلف إرثًا ثقافيًا وأدبيًا يكون قبلة للباحثين وذكرى عذبة للمحبين.

كانت البيئة التي ولد فيها "توفيق الحكيم" يلفها الصمت الأمر الذي طبع عليه الهدوء وحب الانفراد والعزلة

اقتحام عالم "توفيق الحكيم" فجأة واستدعاء ذكراه من الماضي شيء من الصعوبة بمكان، حتى لو غضضنا الطرف عن تلك المشكلة، لواجهتنا مشكلة أصعب، وهي: سنتحدث عن أي بعد في شخصية "توفيق الحكيم" الروائي؟ أم المسرحي؟ أم الفيلسوف؟ أم القاص؟ أم الحكاء؟ كل هذه شخصيات انصهرت في شخصية صاحبنا فكونت لنا هذا الصرح الشاهق.

اقرأ/ي أيضًا: المسيح خلّص باولو كويلهو من فوبيا الطائرات

معانقة الصمت من اللحظات الأولى

يقول "جمال الغيطاني" في كتابه "توفيق الحكيم يتذكر" على لسان الحكيم: "عندما ولدت في تشرين الأول/أكتوبر 1989، ولدت دون بكاء أو صخب أو عويل شأن أي طفل ينزل من الظلمات ويستقبل الدنيا بصرخة كأنها صرخة استنكار لهذا العالم، فارتاعوا جميعًا وحسبوني ميتًا، فالتفتوا ناحيتي فوجدوني أنظر إلى ضوء المصباح وإصبعي في فمي شأن المتعجب، لعل السبب في ذلك أني كنت تعبًا مكدودًا من شدة الجذب، أو أن لساني كان به علة من العلل أو أنه الضعف العام".

ويختتم كلامه بأنه لما كتب زوج خالته إلى والده يخبره بقدومه، أشر والده على الخطاب بالقلم الرصاص وكتب: كنت اليوم موجودًا بالسنطة فورد لي خطاب من الأخ عديلي صورته: رزقتم ولدًا فأطمئنكم وأهنئكم.

كانت البيئة التي ولد فيها "توفيق الحكيم" يلفها الصمت الأمر الذي طبع عليه الهدوء وحب الانفراد والعزلة، فأبوه السيد "إسماعيل الحكيم" كان هو الآخر في شبابه فيلسوفًا وكاتبًا، مما دفع العقاد ليقول: "الله يرحم والده، كان مثل ابنه صاحب تواليف"، لكن هذا المعدن لوالده لم يكن يظهره كثيرًا في بيته، والذي تضاءل أمام مسؤولياته في البيت أو مسؤولياته كقاض في محاكم الأقاليم.

في أحضان "جورج أبيض" 

لم يصبح "الحكيم" من يوم وليلة رائدًا ومجددًا للمسرح، بل هذه الموهبة وهذا التعلق المفرط بالمسرح كتابة ومشاهدة لازمه منذ أن كان طفلًا، فعندما ظهرت "السينماتلغراف" أخذت تطارده كشبح يلوح له كلما وفر من مصروفه خمسة قروش، فسرعان ما يبددهم في الذهاب إلى هناك، الأمر الذي أزعج الأسرة المحافظة وعلى رأسهم والده المتشدد في تعامله معه، أو والدته ذات الأصول التركية التي أبت عليه أن يحتك بباقي الأطفال، فيذكر ذات مرة أنه تأخر في حفلة سينمائية إلى الساعة العاشرة، وعندما عاد إلى البيت أبى عليه والده إلا أن يبيت في الشارع، ولبث على قارعة الطريق طوال الليل، حتى رقت عليه جدته فسربته إلى داخل البيت دون أن يحس به أحد.

قوبل حب توفيق الحكيم للمسرح بالرفض التام من أسرته، لكن هذا لا يزيده إلا تمسكًا وإصرارًا

في البداية قوبل حب توفيق الحكيم للمسرح بالرفض التام من أسرته، فكان هذا لا يزيده إلا تمسكًا وإصرارًا، وتحول الإصرار والتمسك إلى شغف وتعلق، وسيُكتب لهذه البذرة الصغيرة التي نمت في سينما الإسكندرية أن تُتعهد بالاهتمام والعناية في القاهرة على مسرح جورج أبيض.

اقرأ/ي أيضًا: أسواق الكتب القديمة.. حياة في مكان آخر

عندما ذهب "الحكيم" إلى القاهرة، وجد نفسه حرًا طليقًا كأن أهله وهبوه تلك الحرية وهم لا يدرون، فانطلق بكل ما يحتمله وقته وجيبه إلى المسرح بدافع تلك البذرة التي خلقتها فيه سينما الإسكندرية. أحبَّ مسرح "جورج أبيض" الذي استقل بفرقته عن جوقة الشيخ "سلامة حجازي"، فوجد هناك على المسرح التراجيديا بغير قصائد ولا ألحان، كما يقول "التمثيل من أجل التمثيل، لا التمثيل من أجل الغناء"، وكان الفضل في ذلك يرجع إلى جورج أبيض الذي لم يجرؤ أحد غيره أن يقوم بهذا. فعلى هذا المسرح تعرف الحكيم على التراجيديا في أرقى ما تكون، فشاهد مسرحية "أوديب" و"عطيل" وهاملت"، الأمر الذي كان يمثل نوعًا من الثقافة الجادة بحكم دراسة "جورج أبيض" في فرنسا والتي حبته الكثير من المهارة في أن يؤسس لهذا النوع من التراجيديا التي ظهرت بظهوره واختفت باختفائه بناءً قويًّا وجادًا في عالم المسرح، التي كانت بمثابة حجر الأساس، منه انطلق توفيق الحكيم إلى تطوير مسرح يعتمد على سلامة الأداء ورسوخ القدم، ولا يعتمد فقط على فيضان العواطف والدموع.

صار التردد على مسرح "جورج أبيض" من بديهيات ما يقوم به توفيق الحكيم في القاهرة، أصبح مع الوقت أسيرًا لهذا المسرح خاضعًا لسلطان تلك التراجيديا مكبلًا بقيودها. فيقول: أما أنا فكنت من هواة الفن شديد الإعجاب بـ"جورج أبيض"، أحفظ صفحات كاملة من عطيل وأوديب ولويس الحادي عشر، ألقيها بطريقته مع بعض الزملاء في أوقات الفراغ، ولم يكن يعوقني عن حضور حفلاته بدار الأوبرا إلا النقود، فما إن يتوفر لدي خمسة قروش حتّى أسابق الريح إلى أعلى التياترو.

لم يقف التعلق بمسرح "جورج أبيض" عند حد المشاهدة أو حفظ صفحات كاملة من مسرحياته فقط، بل إن الأمر ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد اتفق مع بعض زملائه أن يصنعوا مسرحًا يكون فيه المؤلفون والممثلون والمخرجون وذلك في بيت أحدهم يتمتع بمندرة يستطيعون من خلالها أن يتبادلوا الأدوار، فتعهد "توفيق الحكيم" بكتابة المسرحية، وكان يعطي لنفسه الدور الأبرز، فينسج لها حياتها ثم يدعمها بالأحداث والجمل.

عصفور الشرق

أنهى "توفيق الحكيم" مرحلة البكالوريا التي كانت على صعوبتها مشبعة بالثقافة والقراءة والتردد على مسارح القاهرة والأوبرا، فكوّن بذلك محصلة ثقافية لا بأس بها، ولأن والد توفيق الحكيم كان يعمل بسلك القضاء فقد أراد له أن يسلك مسلكه، لكن الابن الذي تشبعت روحه بالأدب والمسرح رفض وعرض على والده أن يدرس الأدب، مما أثار حفيظة الأب، فذهب به والده إلى "أحمد لطفي السيد" الذي كان بدروه وزيرًا للمعارف في ذلك الوقت، فاقترح أن يسافر إلى فرنسا ليدرس القانون فى جامعة السوربون، وعند العودة يعمل أستاذًا في الجامعة بجانب الأدب.

كان التردد على مسرح "جورج أبيض" من بديهيات ما يقوم به توفيق الحكيم في القاهرة

وهنا يعلق الحكيم: النظرة الأولى للأديب كانت ولا تزال أنه يجب أن يمارس مهنة أصلية لكي يتعيش منها، كأن يكون مهندسًا أو طبيبًا، ثم يأتي الأدب كنشاط إضافي، وهكذا كان حصولي على شهادة من السوربون بهدف الوظيفة، أما الأدب فنشاط جانبي.

اقرأ/ي أيضًا: المركز العربي يقارب الذكرى المئوية للحرب العالمية

وبالفعل حلق عصفور الشرق عبر البحر إلى "فرنسا"، وهنا لعب معه القدر لعبته مرة أخرى، لأنه سيتمتع بحرية أكبر من تلك التي وجدها في القاهرة، هناك كان يعيش مع عمه أما في فرنسا فهو يعيش وحيدًا، ستصبح دراسة القضاء بالنسبة له هي الشيء الإضافي، أما دراسة الأدب والمسرح والفن فهي الشيء الأساسي.

في فرنسا أقبل "توفيق الحكيم" على الثقافة الفرنسية ينهل منها، فأخذ يتردد على المكتبات والمتاحف والأوبرا والمقاهي التي تتوسط العاصمة، الأمر الذي ساهم في تكوين شخصيته وأتاح له فرصة أكبر للتعرف والاختلاط بالثقافة الغربية، ولاحظ أن المسرح الفرنسي قائم على ثقافة المسرح اليوناني فأقبل على دراسته هو الآخر، كأنه ما أتى لفرنسا إلا لدراسة الأدب، مما اضطره أن يقضي في فرنسا أربع سنوات متواصلة لا ينزل فيها إلى مصر لأنه كان يخاف العودة في الإجازات لأن والده سيسأله "أين الشهادة؟"، وبالطبع سيفقد الرد على سؤاله فهو أصبح متفرغًا لدراسة الأدب، وقد أرخ تلك المرحلة المهمة من حياته في كتابيه "عصفور من الشرق"، و"زهرة العمر".

اقرأ/ي أيضًا:

صباح سنهوري: ستغمر المحبة العالم

فيسنتي أوبيدوبرو.. شاعرية السرد القصير