02-يناير-2018

ريم مجدي/ مصر

في الصباح حيث الضباب يغطي طرق حافلات المدارس، ويعكر مزاج طفل لم يكتف بعد بحلم المساء الشتوي من النوم، يأتيني التاريخ هادئًا عند نافذتي، التي تطل على شجرة كبيرة، تستضيف عددًا لا بأس به من العصافير والخنافس، والأوراق الخضراء، وأسلاك الكهرباء العالقة من الجيران. يأتيني التاريخ كشيخ، بصورته الأزلية التي يظهر بها في كل فيلم تسجيلي ومسلسل قديم، وتمثيلية تليفزيونية قصيرة، يفتح الشراعة ويطرق ثلاث طرقات على الجدار، برقة ولكن بحسم، حتى أسمعه دون أن تسمعه ابنتي.

أضع الشال الشتوي، وأجلس جوار النافذة على كرسي خشبي كبير غير مريح. يسألني متوددًا عن الطقس، عن خططي المستقبلية، وعن عاداتي التي غيرتها. يستجوبني عن أهل المكان، عن الحارة الضيقة تحت البيت، عن الشاب الأخرس في محل اللحوم، وعن المعاملة السيئة للأطفال في الحضانة القريبة، عن صوت الأطفال وهم يرتلون القرآن في الصباح، عن مشاجرة الطبيب وزوجته، وعن جاري العجوز المتذمر الذي لا يحب طرقاته على الجدار كل ليلة.

يسألني عن الكلبات الست في الساحة الخلفية، عن الوعود المسفوحة على قارعة الوقت. ويسألني أيضًا عما أخاف منه، وعما كنت أحبه ثم استسلمت لكراهيته، ويسألني عن البحر، وهل صرنا صديقين؟ وهل امتلكت يومًا بيتًا ما كما كنت أتمنى طوال ما مضى؟ ويسألني أسئلة ساذجة عن المحبة، والحرب. ويقول لي: هل عشتِ الحرب؟ هل فقدتِ في الحرب محبوبًا برصاصة بين عينيه؟ وأذكر أنني لم أجب هذا السؤال بين أسئلة كثيرة.

أقاطعه وأعد له كوبًا من الشاي الساخن، وطبقًا من الترمس المنقوع في الليمون، وبضعًا من السوداني الأسواني الأسمر المملح. يأكل دون تمييز بين الأطباق، لكنني أذكر كم أحب طعم الليمون والترمس.

يسألني: هل لا زلتِ خائفة؟ فأسأله: هل كان صوتك هو الذي يتبعني كل حياتي، قبل أن أعرف أنه أنت، وأنه الخوف؟

الجو بارد. لكن حراس العقارات المجاورة بدؤوا في الاستيقاظ، وبدأت الكلبات الست في التنافس على الطعام الذي تركه لهم جاري العجوز. وحتى الأطفال بدؤوا ينزلون من بيوتهم إلى الشوارع والحافلات.

يسألني: تريدين ذاكرتك كاملة؟ قلت له ونحن نتبادل الابتسامات: نعم.

ثم يعاود السؤال: هل ندمتِ؟ فأجيبه دون مرارة: كثيرًا. فيشير لي بإصبعه: لكن تعرفين أن الوقت لا يعود إلى الوراء. فأقهقه، ويلملم هو دفتره.

وقف الشيخ في الهواء، بينما صفت الخنافس طريقًا من الدرجات نحو فوهة الوقت، ووقفت بموازاتها العصافير كسور للدرج متجمدة تمامًا، وانتُزعت الأسلاك بحركة رشيقة منه، لتُشكل أرضًا معلقة في الهواء يخطو عليها نحو الدرج البعيد. فوهة الوقت تضيق، ويلوح لي وألوح له: وداعًا.

يخطو على الأسلاك المعلقة في الهواء، ثم يصعد درجات الخنافس، ممسكًا بسور العصافير المجمدة، يهبط في فوهة الوقت بسرعة. ثم تعود العصافير والخنافس إلى الشجرة الكبيرة، ويتخذ كل سلك موضعه القديم، وتُغلق النافذة ويعود الكرسي الخشبي الكبير غير المريح إلى مكانه، وتتعلق الأطباق في مكانها، ويذهب الطعام فيها إلى حيث كان قبل الأسئلة. وأعود أرقد بانتظار صباح الناس قبل أن يعاود خيالي ممارسة تمارين الوحدة في جوف الليل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قلبٌ على شكل قارب

عرس في القمر