14-سبتمبر-2023
محمود عباس، المحرقة، اليهود والهولوكوست

عمل إعلام السلطة الفلسطينية على تبرير تصريحات عباس (Getty)

لم تكن التصريحات الأخيرة حول الهولوكوست لرئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، مفاجئة، فللرجل خرجاته المثيرة للجدل التي تكثفت خلال السنوات الماضية. لكن التصريحات التي يصح وصفها بأنها مسيئة تدفع المرء إلى التساؤل، كيف لرجل قبل بالتنازل عن جزء كبير من فلسطين وقاد أكبر مشروع تسوية في تاريخ القضية الفلسطينية، أن يدلي بتصريحات مثل هذه، فيقبل وجود المستوطنين اليهود في فلسطين أكثر مما يبدو أنه يقبل يهود القرن التاسع عشر في أوروبا ومأساتهم وسردياتهم؟ وكيف يمكن أن يقبل برواية المجرم الذي وظف المأساة أكثر من المأساة نفسها؟

على ما في هذه الأسئلة من استنكار، إلا أنها أسئلة استفهامية قد تساعد إجاباتها على فهم منطق مشروع التسوية الذي قاده "أبو مازن" طوال عقود مضت. كان مشروع التسوية هذا مرتكزًا على ادعاءات أخلاقية وسياسية كثيرة؛ اللاعنف كخيار إنساني وواقعي مقابل المقاومة المسلحة، الواقعية أمام التطلعات "القديمة والحالمة"، والدبلوماسية التي تتفهم تعقيدات السياسات الخارجية مقابل الانغلاق على العالم.

ففي حين استطاع مثقفون فلسطينيون رفضوا المشروع الصهيوني كاملًا، أن يميزوا بين المأساة اليهودية وبين توظيفها السياسي، بل إن بعضهم استلهم هذه المأساة وقارب بها واقعه، فإن الرئيس الذي تبنى مشروع التسوية لعقود لا يستطيع أن يفهم هذا التمييز

تعكس التصريحات الأخيرة هشاشة هذه الادعاءات، ففي حين استطاع مثقفون فلسطينيون رفضوا المشروع الصهيوني كاملًا، أن يميزوا بين المأساة اليهودية وبين توظيفها السياسي، بل إن بعضهم استلهم هذه المأساة وقارب بها واقعه، فإن الرئيس الذي تبنى مشروع التسوية لعقود لا يستطيع أن يفهم هذا التمييز. ومن يرفض العنف ضد المستوطنين المسلحين اليوم حتى على سبيل المقاومة، يكرر ملاحظاته العنصرية ضد واحدة من أبشع لحظات العنف في العالم المعاصر. أما المفارقة، فإن يقول مثل هذا الكلام، حتى بالمنطق البرغماتي، رجل يدعي أن الحل في الدبلوماسية وفي إدارة الرأي العام العالمي، وقد أصبح خلال الأيام الماضية موضوعًا لبيانات وزارات الخارجية حول العالم.

أما التناقض الأبرز، فإذا كان "السيد الرئيس" مُصرًا على العودة إلى تاريخ لا نحتاج له، لإثبات بطلان الرواية الصهيونية، كما تفعل خطًأ حركات فلسطينية أخرى، فلماذا لا يبطلها كلها؟ وكيف له أن يوظف هذا في رفض جزء من الرواية الصهيونية وقبول جزء آخر، فيقبل بالواقع الصهيوني في صفد (كما صرح علنًا ذات مرة) ويرفضه في رام الله؟

أخطأ أبو مازن ووضع في فم البروبغاندا الإسرائيلية لقمة كبيرة، ومع ذلك فقد أصرت وسائل إعلام السلطة ليس فقط على الدفاع عن هذا الخطأ، ولكن في خضم ردها على عريضة لمثقفين فلسطينيين نددوا بالتصريحات، اعتبرت أن خطأ عباس هو "الرواية الفلسطينية"، وأن المثقفين الفلسطينيين انشقوا عن هذه الرواية، فوقعوا على "بيان العار". كانت ردة الفعل هذه واحدة أيضًا من التناقضات الكثيرة في خطاب السلطة الفلسطينية الذي لا يستقر على مصدر واضح للشرعية، ويتراوح بين أشكال متناقضة منها؛ إنها مشروع التنسيق مع إسرائيل الذي تتهم أجهزته المعارضين بالتنسيق مع إسرائيل، ومشروع التنازل عن فلسطين الذي تتهم وسائل إعلامه خصومها بالتنازل عن فلسطين، الدولة أمام الفلتان، والفلتان أمام الناس، العلمانيون ضد الإسلام السياسي، والمحافظون عندما تنزعج الفئات المحافظة من الحريات، والدولة التي يتهم "رجل دينها" المنتقدين بالزندقة. مؤسسة تعتبر بقاءها انتصارًا، لكنها حين تهدد إسرائيل، تهدد بحل نفسها. هذه هي السلطة وهكذا كانت لعقود؛ مزيج معقد من مصادر الشرعية المتناقضة تحت مظلة من الريع الغربي.

أخطأ أبو مازن ووضع في فم البروبغاندا الإسرائيلية لقمة كبيرة، ومع ذلك فقد أصرت وسائل إعلام السلطة ليس فقط على الدفاع عن هذا الخطأ، ولكن في خضم ردها على عريضة لمثقفين فلسطينيين نددوا بالتصريحات، اعتبرت أن خطأ عباس هو "الرواية الفلسطينية"

ولعل من الطريف المثير للحسرة، أن تتزامن هذه النقاشات جميعها مع أخبار وردت في الإعلام الإسرائيلي مؤخرًا، حول تزويد إسرائيل للأجهزة الأمنية الفلسطينية بمركبات مدرعة وأسلحة ووسائل تكنولوجية متقدمة لتحسين قدراتها الاستخبارية، تمكّن السلطة حسب ما نقلت التقارير على "تنفيذ عمليات تجسس وجمع معلومات استخباراتية، بما في ذلك اختراق الهواتف المحمولة التابعة لشركات الخلوي الفلسطينية". وكذا مع أخبار أخرى عن قلق بعض النخب الأمنية الإسرائيلية من تراجع الدور الأمني للسلطة والثقة بها في أوساط الفلسطينيين وتأثيره على تطور أنماط المقاومة المسلحة في الضفة. تزامن قد يجعل التساؤل شرعيًا عن من عليه حقًا أن يعتذر عن تصريحات أبو مازن؟