05-أكتوبر-2015

من الفيلم

لطالما كانت السوريالية نشاطًا فنيًا وفكريًا ارتبط بالحروب والثورات، فحتى نشأتها كانت من تأثيرات الحربين العالميتين، أو ما يدعى بالسنوات المجنونة، حيث سعت إلى تهديم البنى الفكرية والبصرية والجماليات السابقة من أجل الوصول إلى صيغة جديدة، تعبر عن حقيقة الإنسان المتمثلة بلا وعيه، وما يحمله هذا اللاوعي من غرائبية. 

الصدمة التي سببتها الحرب دعت إلى تغيير كامل في أدوات التعبير عن الواقع فنيًا وأدبيًا

الصدمة التي سببتها الحرب دعت إلى تغيير كامل في أدوات التعبير عن الواقع فنيًا وأدبيًا، إلا أن السوريالية ما لبثت أن تفككت وخبا بريقها، وبقيت كمحاولات فردية أو نشاطات متفرقة في الأزمات والحروب، وهذا ما قام به فريق (سورياليزم-Syrrialism) في سوريا حيث عمد عبر صفحته على الفيسبوك منذ بداية الثورة في سوريا إلى نشر صور وتكوينات بطابع سوريالي في محاولة لانتهاك كل ما هو ضد الثورة السورية، خصوصاً سلطة الدين والدولة القمعية والموت، بصورة مشابهة لتلك التي قام بها أعلام السوريالية كالمخرج الإسباني لويس بونويل، أو الفرنسي جان كوكتو. 

اقرأ/ي أيضًا: كم سيحتاج الإسرائيليون للتخلص من كلاب كوابيسهم؟

مؤخرًا، وبدعم من مؤسسة "بدايات"، قام فريق سورياليزم بإخراج فيلم قصير بعنوان "تسعة ونصف" في محاولة لمقاربة المأساة السوريّة بصيغة جديدة مختلفة عن تلك المعهودة. الفيلم حسب توصيف صنّاعه يرمز عبر اسمه (91/2) لعمر الطفلة السورية مها التي "بعد نجاتها تتحرك وحيدة مع صورة عائلتها في رحلة بحث، عالمها مشكّل حسب التراكمات البصرية التي تخرّجها الحالة السورية، ورفاق دربها غير تقليديين، لكن خيال مها يساعدها لتستمر في الحياة وفي السخرية". 

يبدأ الفيلم بلقطة لأحد شخوص سورياليزم في أعمالهم السابقة واقفًا في برميل، ينتظر ربما سيارة، أو ربما طائرة ليلقى منها مفجرًا تاريخ القمع والانتظار، ثم الطفلة مها وهي تخرج من البحر وتجفف صورة عائلتها وحقائبها باستخدام مجفف شعر. ثم رحلتها بين الحقول، ثم الشاحنة المليئة بالمهاجرين وموسيقي يعزف الكمان من أجل الوصول إلى مكان ما، تتحول بعدها إلى أسيرة ترتدي بدلة برتقالية وحطة عروس، ثم تهرب من قاتلها عبر إطلاق الفقاعات عليه من مسدس فقاعات، لتدخل خزانة تنتقل إثرها إلى فضاء آخر (مستودع مهجور)، لتحضر صورة العائلة نهاية بوصفها الذاكرة التي تمتلكها الفتاة عن أسرتها والتي ترافقها في كل الرحلة، كذلك تحضر شخوص كرتونية طفولية تحمل بنادق  لتعكس التشوه التي تمر به الطفلة التي نجت وبقيت وحيدة لتقتاتها الذاكرة وصعوبات الرحيل، كل ذلك ضمن عذوبة طفولية وتهكم بوجه المنظومة التي أنتجت هذا الرحيل/ المأساة.

إن محاولة تفكيك أي فيلم سوريالي، خصوصًا إذا كان قصيراً محفوفة بالتأويلات المختلفة التي لا تنتهي، وستكون أقرب إلى تمارين ملء الفراغ، لا سيما أن التجارب السوريالية مليئة بالرموز والدلالات التي تفاوت وتختلف مرجعياتها، وتتراوح بين الرموز الدينية والجنسية والعسكرية واليوميّة بصورة مضخّمة، إلى جانب مكونات الذاكرة و الحلم واللاوعي التي تنصهر لتكوين الصورة/البنية التي يكون الهدف منها إثارة الصدمة لا الإغراق في التأويل، كالمثل السوريالي الذي ابتدعه بول إيلوار "عليك أن تَضرب أُمّك ما دامت صبيّة"، فالهدف هو الصدمة لا الإغراق في التحليل الفرويدي علمًا أن السوريالية تعتمده، لكن كوسيلة لإنتاج المعنى لا لتأويله.

يبدأ الفيلم بلقطة لأحد لشخص يقف في برميل، بانتظار طائرة يُلقى منها ليفجر تاريخ القمع 

يتبع "تسعة ونصف" تقنيات الإخراج وسير الحكاية التقليدية دون الإغراق في التعقيد والتداخلات المبالغ فيها، أما الرموز والإيقونات فهي حاضرة في كل لقطة، والأحداث تجري في زمن خطيّ بحيث تتالى أجزاء الحكاية، كما يحوي كل مشهد ما يميّزه عن غيره كبنية منفصلة لها مرجعيتها الثابتة، إلا الدوال البصرية التي يحويها الفيلم لا توظّف جميعها كأغراض تساهم في بناء المعنى، بل تكون أحيانًا أقرب للديكور، فلا تتعدى مهمتها الزينة بحيث تكون العلاقة مع الرمز سطحية، لا تدخل في جوهر تكوين الصورة أو سير الحبكة بحيث تفتح المرجعيات على التعدد، أما الغرابة  في استخدام الدال وتوظيفه بصورة تتجاوز الواقع فلم تكن حاضرة بصورة كبيرة، صحيح أن تشويه الدوال (تغيير سياق الاستخدام) هو أحد أهم أساليب البناء السوريالي إلا أنه يتعدى المدلول الواحد، أي على الدال أن يتحرك بمعناه الجديد ضمن السياق، ولا يكتفي بمدلول واحد وهذا ما لم نره في "تسعة ونصف".

اقرأ/ي أيضًا: "الولد الصغير".. الفن كأداة للتدليس

لا يمكن إنكار أن السوريالية وظّفت السينما حين كان هذا الفن حديث الظهور ولم تكن التقنيات الحديثة قد دخلته، أما الآن فتقنيات التصوير وما تنتجه الثورة في سوريا من صور وحكايات أصبحت قادرة على تجاوز الغرابة والدهشة، التي من الممكن أن تحويها التكوينات والصور والأفلام السوريالية، وهذا ما يجب أن يدفع لتفكير أعمق من أجل خلق الدهشة والغرائبية، أما بناء حكاية سوريالية كالتي يعرضها "تسعة ونصف" فهي تحتاج لزمن أطول لأن الأفلام السوريالية القصيرة اشتهرت بأنها بدون حكاية، وهي أقرب إلى الصدمة البصرية، وهذا ما لم يحققه الفيلم إذ أن الحفاظ على الحكاية وخلق الدهشة جعله أحيانًا يبتعد عن أحد هذين الهدفين، بتقديم أحدهما على حساب الآخر ضمن المسار العام.