14-فبراير-2024
كتاب تاريخ الصحافة العربية

كتاب تاريخ الصحافة العربية (ألترا صوت)

العام 1988، المحاضرة الأولى، اليوم الأول، سنة أولى صحافة.

دخل أستاذ خمسيني إلى القاعة، وجلس بهدوء وراء طاولة كبيرة. وبعد لحظات صمت، تنحنح منبهًا إيانا إلى وجوده، ثم كانت أول عبارة نسمعها في الكلية: "إذا أردتم أن تصبحوا صحفيين فعليكم أن تفعلوا أشياء كثيرة، أولها أن تقرؤوا كتاب تاريخ الصحافة العربية لـ فيليب دي طرازي".

لا أذكر إن كنا قد عملنا بوصيته، أو سعينا إلى ذلك أصلًا. لكن ما أذكره أن عنوان الكتاب ظل مهيبًا وذا وقع خاص في آذاننا، لا سيما أننا طالعناه كثيرًا في المقررات الدراسية كمرجع أساسي ومصدر أول ينهل منه المؤلفون بغير حساب.

لذلك فقد كانت مفاجأة سارة أن تُقدِم "مؤسسة هنداوي" العام الماضي، 2023، على نشر نسخة إلكترونية من "تاريخ الصحافة العربية" وإتاحتها للقراء مجانًا. وها هو الكتاب يظهر أمامنا ببعده الواقعي، متخلصًا من شرنقته العاطفية وحمولته الأيقونية.

إنه كتاب تاريخ بدأ تأليفه في العام 1913، وفيه جرأةُ وإقدام المحاولات الأولى، كما فيه بعض من عيوبها أيضًا: لغة ذلك الزمان بأسلوبها القديم في التنميق وتقريظها ذي الكليشات المكرورة، مع شيء من التكرار وقليل من الأخطاء والتناقضات في التواريخ.

رواد الصحافة العربية كانوا هم رواد النهضة العربية، وقد استخدموا الصحف كأدوات في مشاريعهم ومنابر لتقديم أفكارهم التنويرية وخططهم الإصلاحية

لكن ذلك لا يقلل من شأن هذا العمل الجليل، ولا يعيقه عن أن يقف في مصاف الكتب الكلاسيكية التي لا غنى عنها، خاصةً وأنه ليس كتابًا في تاريخ الصحافة فقط، بل وفي تاريخ ما نسميه عصر النهضة العربية أيضًا.

رواد الصحافة العربية كانوا هم رواد النهضة العربية، وقد استخدموا الصحف كأدوات في مشاريعهم، منابر لتقديم أفكارهم التنويرية وخططهم الإصلاحية، فكثرت مقالات الرأي، ونصوص الإرشاد والتنبيه والتوعية، ونال نقد الأوضاع السائدة حصة كبيرة من مساحة جميع الجرائد.

وكان للأخبار حضور مع ذلك، فقد كانت الصحف العربية، في مراحلها الأولى، تنقل عن الصحف العثمانية والأوربية آخر المستجدات وأهم الوقائع والأحداث. واللافت أن هذه المهمة سرعان ما اكتسبت أهمية بالغة في الحياة العربية، فالقائمون على الصحف من العرب وجدوا أنفسهم أمام كم كبير من المصطلحات والمفاهيم الجديدة، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، فراحوا يجتهدون في ترجمتها ونحت مقابل لها في لغتنا.

وما هي إلا سنوات، أو عقود، حتى درجت كلمات كثيرة أغنت الثقافة العربية وصارت من مفاتيحها الأساسية. إذن فالصحافة، لا المجامع اللغوية، هي من دشن الجسر إلى لغة العالم الحديث.

ونعرف كذلك أي دور كان للصحافة في تجديد اللغة العربية وتبسيطها وجعلها أكثر مرونة، عندما أخذت على عاتقها مخاطبة شرائح من الناس خارج دائرة النخبة الضيقة. ومرة أخرى، فلغتنا العصرية هي نتاج الجرائد والمجلات لا مجامع اللغة.

غير أن المؤلف لا يعفي الصحافة من النقد، فهو يقول عن مرحلة التأسيس (1799 ـ 1869): "وكانت صحافتنا في بداية أمرها.. سقيمة الطبع، خالية من تبويب أبحاثها، بوجه الإجمال إلا ما ندر، ولا غرابة في ذلك، لأن هذا الفن كان مجهولًا، وسوق العلم كاسدة، وآثار الحضارة مندرسة في أكثر أنحاء الشرق".

يتألف "تاريخ الصحافة العربية" من أربعة كتب، تتراوح مهامها بين التوثيق، والفهرسة، وجمع المقبوسات، وتقييم التجارب، وسرد المعلومات التاريخية، ورواية الحكايات الشيقة، وتقديم ترجمة (سيرة) للأعلام من الرواد والمؤسسين.

في المعلومات، فإن أول جريدة ظهرت في العالم عقب اختراع الطباعة كانت "غزته"، في البندقية بإيطاليا، سنة 1566. وأول جريدة يومية كانت "ديلي كوران" البريطانية سنة 1702.

أما أول جريدة تظهر في العالم العربي فكانت "الحوادث اليومية"، سنة 1799، التي أسسها الفرنسيون في مصر إثر حملة نابليون. ولكن هذه الجريدة لم تعمر كثيرًا، إذ سرعان ما ذهبت بذهاب الحملة. لذلك يعتبر البعض أن أول جريدة بالفعل هي "الوقائع المصرية" التي أنشأها محمد علي، واستمرت لعقود بعده.

و"مرآة الأحوال" للحلبي السوري رزق الله حسون، هي أول جريدة عربية يؤسسها ويحررها عربي، وقد ظهرت في الأستانة عام 1854.

و"النحلة" هي أول مجلة عربية مصورة، و"أبو نظارة" هي أول جريدة عربية مرسومة بالألوان.

وأول من كتب عن الصحافة العربية، سنة 1884، هو هنري غلياردو القنصل الفرنسي في القاهرة.

وأول عربي يحضر مؤتمرًا بوصفه صحفيًا هو اللبناني أمين أرسلان، سنة 1897، في استوكهولم بالسويد.

وأول مدرسة للصحافة تأسست في باريس سنة 1899.

وأول متحف للصحافة تأسس في بروكسل عام 1907. وفي بروكسل أيضًا أقيم أول معرض للجرائد سنة 1893.

وفي الأسماء والمصطلحات، فإن خليل الخوري عندما أصدر "حديقة الأخبار" فقد استعار لها اللفظ الفرنسي "جورنال". فيما سمى رشيد الدحداح مطبوعته "برجيس باريس" بـ "الصحيفة"، وأطلق أحمد فارس الشدياق على "الجوائب" وصف "جريدة". أما أول من أطلق مصطلح الصحافة، فكان نجيب الحداد حفيد ناصيف اليازجي. ولا تزال المفردات الأربعة (جورنال، صحيفة، جريدة، صحافة) تحتكر التعريف بالمهنة ومنتجاتها.

لغتنا العصرية هي نتاج الصحافة، لا مجامع اللغة، التي دشنت الجسر إلى لغة العالم الحديث

وفي التراجم، يعرض المؤلف لسير عدد كبير من الأعلام، بينهم: ناصيف اليازجي، بطرس البستاني، أحمد فارس الشدياق، رشيد الدحداح، خليل خوري، فرنسيس مراش، حسن العطار، رفاعة الطهطاوي..

ويتوقف عند تجارب صحفية مميزة مثل جريدة الشدياق، "الجوائب"، التي صدرت سنة 1860 واستمرت حتى 1883، وحققت انتشارًا لافتًا وذاع صيتها في كل الأقطار العربية وبعض البلدان الإسلامية. ويبدو أن الشدياق، إلى جانب ثقافته الموسوعية، قد امتلك حسًا صحفيًا رفيعًا، إذ عرف كيف يخاطب شرائح واسعة من القراء، مقدمًا مواد معرفية عميقة وبسيطة في الوقت نفسه، بأسلوب رشيق جذاب تزينه روح الدعابة والسخرية.

ولكن طرازي يأخذ على الشدياق ميله إلى العراك وضيق صدره إزاء منتقديه، ما جعله يخوض الكثير من المعارك التي لم يتورع فيها عن استخدام الألفاظ القاسية والبذيئة أحيانًا، ومنها معركته الشرسة مع زميله رزق الله حسون.

فيليب دي طرازي لبناني من أصول سورية حلبية، ولد سنة 1865، وتوفي سنة 1956. أسس "دار الكتب الوطنية" في لبنان، وشغل منصب أمين "دار الآثار" في بيروت، وعضو المجمع العلمي العربي بدمشق.

يحمل لقب فيكونت واشتهر باهتماماته المتعددة وثقافته الموسوعية، وله عدة مؤلفات، أهمها: "خزائن الكتب العربية"، و"اللغة العربية في أوروبا"، و"عصر العرب الذهبي"، إضافةً إلى "تاريخ الصحافة العربية".