07-أغسطس-2016

علي شيرازي/ إيران

اللغة كالكائن الحي لها حياتها ودورتها وآليات تطورها الخاصة، وكما أن أحد أهم الميكانيزمات التي تحكم تطور الكائنات هو ذلك المبدأ القائل بأن "العضو الذي لا يستخدم يضمر"، كأحد أهم ميكانيزمات تكيف الكائنات مع الظروف والمناخات الجديدة التي يعيش فيها- كذلك في اللغة، "الكلمة التي لا تستخدم تضمر".

اللغة كالكائن الحي لها حياتها ودورتها وآليات تطورها الخاصة

تحكم اللغة أيضًا شروط التطور الطبيعية التي تحكم نمو الكائنات الحية، فهناك أعضاء تتغير وظيفتها أو حتى شكلها، أو تنحرف عن وظيفتها الأساسية كالزعانف التي صارت يدًا لدى بعض الكائنات، والعيون حيث نجد أن للأفعى عيونًا في وجهها، لكنها ترى بلسانها كذلك حال الوطواط الذي "يرى" بأذنيه.

اقرأ/ي أيضًا: "الله الصمد".. من نقوش أوغاريت إلى القرآن الكريم

كذلك وظائف بعض الحروف التي تؤدي ذات المعاني الوظيفية بأشكال مختلفة. من هنا يمكن تفسير ظاهرة "تغير أشكال رسم الحروف" واختلاف نطقها ففي المجتمعات البشرية التي تتكلم لغة واحدة، نلاحظ فيها من ينطق الكلمات بوضوح ومنهم من يبلع بعض حروفها اختصارًا، حيث يميل الدماغ إلى اختصار الوظائف التي تتكرر يوميًا، لأن الممارسة اليومية للغة والاستخدام الكثيف لبعض الكلمات يمنحها صفة الوضوح فتصبح هي كلمات بحد ذاتها مع مرور الأيام. 

ولنا في حرف الشين في اللغات القديمة واللغة العربية اليوم مثال على ذلك، فهو حرف يدلل على الاستفهام والاستفسار والنهر والتوبيخ، فعندما تقول للطفل أو لبالغ يزعجك: "ش"، فهذا يعني أن تقول له: توقف عما تقوم به أو اصمت ولا تقل أكثر. وعندما تقول في صيغة السؤال "ش" فهي تساوي صيغة السؤال "ماذا؟"، أو "ما هو؟"، أو "كيف؟"، أو صيغة التعجب "يال!".

هذه الوظائف لحرف الشين نجدها بوضوح في اللغات العاميات في كلمة شنو القبطية، وشو في العاميات السورية، وايش في المحكية الخليجية، و"تشه" الفارسية، التي تأتي بمعنى "ليش ولماذا".

الممارسة اليومية للغة والاستخدام الكثيف لبعض الكلمات يمنحها صفة الوضوح 

وسنأخذ مثلًا على ما نذهب إليه باستعراض تاريخ تطور إحدى أكثر الكلمات استخدامًا، في لغتنا وهي كلمة "شلونك" التي تعتبر من الكلمات المفتاحية خلال اللقاءات والتواصل بين الناس، والتي تقال في عبارات الترحيب عند الالتقاء بشخص تعرفه أو لا تعرفه، للسؤال عن صحته وأحواله وما هو الجديد الذي طرأ على حياته.. إلخ، لكن هذه الكلمة في شكلها الحاضر البسيط يختبئ خلفها تاريخ من التطور حتى وصلت إلى ما هي عليه. فكلمة "شلونك" التي يستخدمها أهل الشام، أو شونك أو شيونك كما ينطق بعض أهل حمص السورية؛ وكلمة "شلونتش أو شحالك" بنطق أهل الخليج، وكلمة "ازيك" في اللهجة المصرية؛ نجدها أيضًا باللغة الفارسية القديمة بذات المعنى "تشه كونيه" ( تلفظ الكاف جيم مصرية)، وفي السريانية اللغة الأقدم من سابقتيها "شكونو"، وهي قريبة النطق من كلمة السلام السريانية المستخدمة إلى اليوم "شلومو"، أي السلام ومنها "شلومو عليخو": السلام عليكم، وأصلها العربي مأخوذ تمامًا عن السريانية مع إبدال الحروف الشهيرة باللغات القديمة.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كلمة "لي لي ليش" وحقيقة معبد "لالش" الأيزيدي

هذه الكلمة تتألف في مقطعين: في اللغة الفارسية: تشه+كونيه، وفي العربية: شو+لونك، وفي المصرية: ازي+ك، ويمكن أن يكون لها تركيب وظيفي آخر في العامية السورية مثلًا: شلونك= شلون "كيف"+ ك "المخاطب؛ تمامًا كما في المصرية، ازيك= ازاي "كيف"+ ك " المخاطب".

ويمكن أن تكون ش وهي هنا بمعنى شو أو شنو، كما في القبطية، أو "شني" في اللغة الدارجة الليبية واللغة الدارجة السودانية، أو "شو" في اللهجات السورية، وشنو للمذكر وشني للمؤنث في لهجات أهل الخليج، وكلها بمعنى "أي شيء هو؟ أو ما هو هذا الشيء" "راجع كتاب القبطية العربية" (ص 47) لـعلي فهمي خشيم.

فيما تأتي تعني كلمة "شلون" السورية، أو "شكون" الخليجية، أو "تشه" الفارسية: وهي تختلف حسب موقعها وصيغة للسؤال منها، وهي بشكل عام تعبّر عن الكيفيات؛ في هذه الحالة نضيف لها "ك" المخاطب وتنتهي قصتنا فتصبح شلون+ك = أي كيفك.

كلمة شلون" السورية، أو "شكون" الخليجية، أو "تشه" الفارسية، تختلف حسب موقعها وصيغة للسؤال منها، لكنها بشكل عام تعبّر عن الكيفيات

ولكن سنخوض في هذه الكلمة من طريق آخر أكثر امتاعًا فالمقطع "لونك" السورية، "كونك" الخليجية والفارسية و"جونو" -بنطق الكاف أو الجيم " جيما مصرية G"- لها معنى وجودي يتجلى في فعل الـ"كَون"في العربية، و"كون يه" بالفارسية، و"كونو" بالسريانية، وهي كلمة تدلل على الحالة الوجودية للشخص ويعني في اللغة السريانية "اللون" والفارسية "الحال".

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كلمة "مرحبا"
 
وبالتالي فإن عبارة: ش لونك؟ كيف حالك في العربية هي ذاتها "تشه كونيه" (لفظ الجيم المصرية) التي تعني في الفارسية: أي حال أنت عليه. ولنا ما يؤكد ذلك في لغة العرب نفسها؛ ولكن ذلك يتطلب بنا الانتقال إلى مستوى أعمق في حفريتنا اللغوية هذه. فبالرجوع أكثر إلى الوراء في تاريخ اللغات نجد أن كلمة "كونو/ جون" بلفظ الجيم المصرية، تعني في اللغة السريانية "اللون"، وتعني أيضًا في اللغة الفارسية القديمة "اللون"، وليس "الحال" كما هي عليه اليوم. والمفارقة المدهشة تكمن في الخلط بين حرف "الكاف واللام" في كلمة "شلونك وشكونك أو تشوكونيه"، وذلك يعود في أحد أبرز وجوهه إلى تشابه رسم حرفي اللام والكاف في اللغة السريانية.
 
وهنا تبدأ رحلتنا الممتعة في تاريخ كلمة "شلونك أو شكونك/ شْ جَونك"، وننطلق فيها من مروية نقلها الرواة العرب عن الرسول محمد (ص) ستكشف لنا بكل جلاء ما نسعى إليه.

اقرأ/ي أيضًا:

هل كان أجدادك بدائيين أم بدئيين؟

فن الحبّ السوري