01-نوفمبر-2023
(Getty) من دمار قطاع غزة

(Getty) من دمار قطاع غزة

في الثالث عشر من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، بعد أقل من أسبوع على تنفيذ "كتائب القسّام"، الذراع العسكري لـ"حركة حماس"، عملية "طوفان الأقصى" في غلاف غزة ردًّا على الاعتداءات اليومية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين ومقدساتهم، نشر الروائي المغربي الفرنسي الطاهر بن جلّون مقالًا في مجلة "لوبون" الفرنسية اليمينة هاجم فيه "حماس" واتهمها بقتل النساء والأطفال الإسرائيليين.

تبنّى بن جلّون في مقالته الرواية الإسرائيلية كاملةً، حيث وصف عملية "حماس" بأنها فعلٌ همجيٌ بربري ليس له أي عذر أو مبرر. بل، أكثر من ذلك، قال إن ما فعلته لم تكن لتفعله "الحيوانات"، وهو بذلك قد تفوّق على وزير أمن الاحتلال يوآف غالانت الذي وصف سكان غزّة، قبل أيام من نشر بن جلّون لمقالته، بأنهم "حيوانات بشرية"، وقال إن "دولته" تتعامل معهم وفق ذلك!

إن تأثيم نضال شعب مظلوم والحطّ من شأنه لا يقول سوى إن هؤلاء مصابون بعقدة نقص عميقة

يُسجَّل لبن جلّون تفوّقٌ آخر على الإسرائيليين، فهو لم يكتف بتبنّي روايتهم فقط، بل وظف أيضًا مخيّلته، باعتباره روائيًا، لإضافة فصل جديد لها ربما أغفلته مخيّلاتهم الخصبة؛ إذ نعى صاحب "تلك العتمة الباهرة" القضية الفلسطينية التي قال إن مقاتلي "حماس"، المتعصبين الغارقين في أيديولوجيا إسلامية من أسوأ الأنواع، قد قاموا باغتيالها. و"حماس"، لذلك ولأسباب أخرى، عدوٌ للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني معًا.

في مقالة الطاهر بن جلّون تجاهل متعمد لتاريخ القضية الفلسطينية، ولواقع قطاع غزة ومعاناة أهله المحاصرين منذ أكثر من 17 عامًا. وفيه أيضًا رغبة صريحة في الانصراف عن التفكير بما تعرّض ويتعرّض له الفلسطينيون، وبتبنّي الرواية الإسرائيلية لا لشيء سوى أن الغرب تبنّاها. فما ذكره في مقالته لا يستند إلى أي دليل سوى تلك الأدلة "المتخيّلة" التي استند إليها الإعلام الغربي، بل وحتى الرئيس جو بايدن حين قال إنه شاهد صورًا لأطفال قطعت "حماس" رؤوسهم.

لا يحتاج الطاهر بن جلّون إلى مقالة كهذه ليُثبت خصوبة مخيّلته الفظيعة! ولكنه كان بحاجتها، حتمًا، ليُعلن نفسه "رجلًا أبيض" لا بجنسيته فقط، بل بتفكيره المأزوم وقصر نظره وتفوّقه أيضًا. ولا عجب بعد ذلك أن يخرج علينا بكتاب بعنوان "فلسطين كما أشرحها لابنتي"، بعد أن شرح العنصرية والإرهاب من قبل، ولا نعرف كيف فعل ذلك!

لم يكن الطاهر بن جلّون وحده من تبنّى الرواية الإسرائيلية وانخرط في حملة شيطنة المقاومة وإدانتها باستخدام أوصاف فظيعة لم تُستخدم حتى لإدانة "إسرائيل" على ما ارتكبته من مجازر طيلة 75 عامًا،
فهناك أيضًا بو علام صنصال الذي وصف "حماس" بأنها "داعش"، وكمال داود الذي تساءل، بصفاقة، عما تبقى من القضية الفلسطينية بعد "طوفان الأقصى"، وكذا ياسمينة خضرا (محمد بولسهول) الذي ساوى بدوره بين ما فعلته "حماس" وما تفعله "إسرائيل.

تشترك مواقف هؤلاء في الرغبة بالانصراف عن التفكير وعدم تجاوز الطريقة التي فهم بها الغربيون ما يجري في غزة. كما تشترك في الوقاحة والصفاقة، وهنا تفوّق بن جلّون وداود على الآخرين بنعي أحدهما للقضية الفلسطينية، والتساؤل المتكّبر للآخر عما تبقى منها.

يستدعي هذان الموقفان تساؤلات كثيرة، منها: من أعطاهما الحق بنعي ما يجهلانه؟ وبأي صفة ينعيان قضية حيّة منذ 75 عامًا؟ ومهما تعددت الإجابات، فإنها لا تبتعد عن عقلية "الرجل الأبيض" والنظر إلى قضية فلسطين ومعاناة شعبها من أعلى، أي من حيث بإمكانهم تقرير مستقبلهم ومصيرهم بل ونعي قضيتهم نيابةً عنهم. ولا حاجة للتذكير بأن هذا في النهاية سلوكٌ غربيٌ استعماري.

أمام هذه الوقاحة التي تُخرج ما حدث في السابع من الجاري من سياقه التاريخي، وتتعامل معه بمعزل عن السياسات الإسرائيلية الاستعمارية، كما يفعل الإعلام الغربي، يستعيد المرء ما قاله الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو ردًّا على أحد أعضاء حكومة الاحتلال الذي اعتبر أن تضامنه مع الفلسطينيين هو نتيجة وقوعه ضحية لدعايتهم الرخيصة. يقول ساراماغو: "أفضّل أن أكون ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة بدلًا من أن أكون متعاونًا مع الدعاية الإسرائيلية المكلفة جدًا".

لم تكن تلك المرة الأولى التي يُعلن فيها ساراماغو تضامنه مع الفلسطينيين وقضيتهم، ولا أول مرة يُثير فيها غضب الإسرائيليين والصهاينة الذين لطالما اتهموه بـ"معاداة السامية" بسبب موقفه من القضية الفلسطينية من جهة، وسخريته من السرديات اليهودية والصهيونية التاريخية في أعماله الروائية من جهةٍ أخرى.

في مقال له بعنوان "من أحجار داود إلى دبابات جليات"، يتوسل الروائي البرتغالي قصة "داود وجليات" لفضح سياسات "إسرائيل" الاستعمارية ووحشيتها بحق الفلسطينيين الذين يشدد في مقاله على أن معاناتهم بدأت منذ عام 1948 لا في عام 1967. وأن فكرة القضاء عليهم تلخص الاستراتيجية السياسية لإسرائيل منذ 1948، مع بعض التغييرات التكتيكية في بعض الأحيان.

ينطبق مضمون المقال (نُشر عام 2002) على ما يجري الآن في غزة، فالغاية من العدوان القضاء على الشعب الفلسطيني لا الدفاع عن النفس كما يزعم البعض! ولا يتعلق الأمر هنا بعملية "حماس" وإنما بالاستراتيجية السياسية لـ"إسرائيل" التي تحدّث عنها ساراماغو.

ولأنه يجري توظيف "الهولوكوست" في تبرير حرب الإبادة على غزة، فإنه لا بد من استعادة قول ساراماغو إن: "اليهود لا يكفّون عن نبش جرحهم بأنفسهم كي لا يتوقف عن النزيف، وكي يجعلوه غير قابل للشفاء أبدًا، ويظلون يطلعون العالم عليه كما لو كان علمًا لدولتهم". وسبق لصاحب "قصة حصار لشبونة" أن قارن بين ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما فعله النازيون في معسكرات الإبادة "أوشفيتس" في بولندا.

ساراماغو: أفضّل أن أكون ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة بدلًا من أن أكون متعاونًا مع الدعاية الإسرائيلية المكلفة جدًا

أما الحكم على ما يمثّله كل من النوعين، الكتّاب سابقي الذكر وساراماغو، فإن تأثيم نضال شعب مظلوم والحطّ من شأنه لا يقول سوى إن هؤلاء مصابون بعقدة نقص عميقة ويبحثون عن اعتراف في مؤسسات الغرب حتى لو كان الثمن تماهيًا مع مرتكبي الإبادة الجماعية، دون أخذ عبرة من تجارب مشابهة عرفها التاريخ ولا يزال يجلجلها بالعار.

في حين أن ما يمثّله ساراماغو، شخصًا ونصًّا، يظل تعبيرًا عن روح الإنسان التي توسّع انتماءها إلى العالم، وارتباطها بألم المعذبين بالأرض، مهما ترتبت على تلك الخيارات من خسائر.