04-فبراير-2022

غروب في دجلة (Getty)

دجلةُ على يميني، الجسرُ يعبُرني مُسْرِعًا مثلَ مركباتِ رجال الأمن المُدجّجة والخائفة. السيَّارات العسكريّة بأشكالها الخرافيّة وخياشيمها النّافرة تتهدّجُ فوق أكتافِ الشّوارع.

واللّيل، ذاكَ اللّيل البغداديُّ، كمْ كان حانيًا وعميقًا تلكَ الأيّام، لا يكترثُ اليومَ لشيء ولا حتّى لجثّة تتثاءبُ على رصيفْ. أكادُ أراهُ يتكاسلُ ويغالبهُ النّوم قليلا بعدَ الغُروب.

*

شُحوبُ العراقيّين يمتزجُ بارتجالِهم الحفاوَةَ الصَّفراء، حينَ تباغتهم بالسّؤال أو التحية فيبدون أكثر إيلامًا.

بغدادُ نهرٌ معصوب العَينينِ وليل مختطفٌ مرهونٌ في المخابئ. ونساءٌ كستائر مُسدلة سوداء وأيّام مثل تذاكر مثقوبة، لا تصلحُ لرحيلٍ أو عودة

صوتٌ مِنْ بعيدٍ يخترقُ اللّيل وكأنّه يتلمّسُ أصداءَهُ الّتي تتلاشى قبلَ أن تصِل.

اقرأ/ي أيضًا: أن تكون في بغداد

مثلَ فانوسٍ يلفظُ أنفاسَه في مقبرةٍ رمليَّة.

صوتٌ يأتي مِنْ جِهة النّهر. أراهُ يُلملِم ضِفَّتيه مِثلَ طِفلٍ بردانٍ يرتدي دشداشة أصغرَ مِن جسمِه وَهو يُحاولُ جَرّها لِتُغَطِّي كُلَّ أطرافِه.

هذهِ بغدادُ.

هذهِ أصواتُها تتعالى مِنْ كُلِّ الحَارات والملاذات والأقبية، نشيجًا تارةً وصيحات غضبٍ أخرى.

أصواتٌ أعرفها لكنّني لمْ أجدها وأنا عائدٌ إلى هُنا بعدَ غيابٍ دامَ أكثر مِن أربعينَ عامًا.

أصواتٌ كالأشباحِ تتراءى وتختفي.

لا تلبثُ أن تتوارى خلفَ غُبار أصفر تنفثُهُ المصابيحُ المعروقة.

إنّها تستجوبُني تهزّني فيرتجّ لها كياني. تمامًا كما تجفلُ شوارع بغداد ومقاهيها وأسواقها في الانفجارات والمفخّخات، تلكَ الّتي يتطايرُ فيها شظايا الأجساد والمعادن والأرصفة كلّ يوم في مشهد للقيامة صار مبتذلًا.

 أسائلُها:

ـ مَنْ أنتِ؟

فتردُّ ببرود وتلقائيّة الآلهة اليونانيّة: "أكيوس" والتي تسمّيها العرب "الصّدى".

 -من أنتَ؟

*

نسيَ كلٌّ منّا الآخر.

لا توجدُ اليومَ أيّة فسحةٍ في هذا النّفق المُعتم مِنْ خارطةِ الزَّمان والمكان لاستعادَةِ ماضٍ لم يمُتْ، إنّما انقرض. هذه رغبة تشبه من يحاولُ إعادة الجسد لتمثال ملحيّ ذائب.

*

لا ملاذَ هُنا.

لقدْ خرجَ النّهر من سريرهِ ولنْ يَعود. واختُطِفَ اللّيلُ العبّاسيّ بأوشحتِهِ السّوداء وحاناته النؤاسيّة. وَدَاسَتْ أقدامُ الغرباءِ الجسدَ الأسطوريَّ الّذي كانَ يَفتِنُ الحالمينَ والعاشقينَ والشُّعراءْ.

إنّكِ هنا الآنَ تجدّف وحيدًا فوقَ رَصيفكَ الغارق، بين كلماتك النّافقة.

بغدادُ نهرٌ مَعصوبُ العَينينِ وليلٌ مختطفٌ مرهونٌ في المخابئ. ونساءٌ كستائر مُسدلةٍ سوداء وأيّام مثل تذاكر مثقوبة

في قارب جسدكَ الّذي لمْ يعُد يقوَى على حَملِك. لهذا ستسقُط يومًا مثلَ صرخة متحجّرة أو تطفو بينَ ملايينِ الأسماكِ المَيتة هُن.

اقرأ/ي أيضًا: بورخيس في المتنبي

في الوجوه وفي الكلمات والمراثي والأعراس والابتسامات والوداعات والمقاهي والفواتح والصُّحف والشّاشات والأنهار وواجهاتِ العَمائر ووجوه الأصدقاء والأعداءِ والرّاحلين.

*

بغدادُ نهرٌ مَعصوبُ العَينينِ وليلٌ مختطفٌ مرهونٌ في المخابئ. ونساءٌ كستائر مُسدلةٍ سوداء وأيّام مثل تذاكر مثقوبة، لا تصلحُ لرحيلٍ أو عودةٍ، ودمٌ فقدَ لونه يَسيلُ تحتَ الأقدام.

أيُّ نهر هذا الّذي تُجدِّف فيه.

 أيُّ قاربٍ أنتِ.

 

  • تحت عنوان "جهة الصمت الأكثر ضجيجًا"، يطلّ الشاعر شوقي عبد الأمير على قرّاء ألترا صوت أسبوعيًا في حديث أو مقالة في محبة الشعر وأهله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

من ديوان العراق

شارع المتنبي.. حريق جديد يضرب رئة بغداد الثقافية