16-نوفمبر-2015

إدمان الجنون في دمشق (أنور عمرو/أ.ف.ب/Getty)

الجنون ليس حدثًا مهمًا في هذه المدينة. أدمناه منذ زمن بعيد، وهو أبعد من السنوات الخمس الدموية التي مرت على عجل كما لو أنها تستفز ما بقي من رغبات للتيه في شوارع الشام من دون هدف أو معنى بعد أن غاب العقل الذي حكم فسيفساها عقودًا من شعارات الوحدة الوطنية والشعب الواحد والعلمانية في شكلها الهجين.

في مقهى الكمال التقيناه قبل عام تقريبًا. لم نعرفه كما لن يعرفه أحد سوى النادل الذي قال عن الرجل الذي يلعب الشطرنج وحيدًا مبتسمًا: هذا عماد حقي. في الماضي القريب، كان رجلًا يشبهه. نعم هو البطل الذي قالت عنه وسائل الإعلام من رفع علم البلاد في المحافل الدولية مقتربًا من مملكة (كاسباروف) وبطلًا متوجًا لآسيا في الشطرنج.

عماد حقي هو البطل السوري الذي قارع كاسباروف أسطورة الشطرنج

ضاعت ذاكرة عماد حقي ولم يبق منها سوى بضع جولات مع البطل الروسي، وعتب على اتحاد اللعبة الذي أهمله ورماه خارج الرقعة بعد كل هذا المجد، وبيت كبير لآل حقي فارغًا من الأحبة كان آخرهم شقيقه الطبيب الذي هاجر هربًا من الموت الذي سيأكل الشام قريبًا، كما يرى رجل الشطرنج.

في محاولة لافتعال حديث معه يحكي البطل ما يريد، حاولنا، لعله يرمي بكامل عقله على الطاولة وهو يرتشف كأس الشاي بشغف مملوءة بالسكر رغم إصابته بمرض السكري، ويدخن كمن ينتحر عمدًا هاربًا من علاقته مع الله، وحسابات الورق التي تذكره بسنوات دراسته الهندسة، فالرقعة بناء هندسي يبنيه بحب وضمير.

محاولات عديدة من رفاق اللعبة وزبائن (الكمال) لترتيب منظر البطل فشلت جميعها إلا واحدة. كانت إلى حمام السوق أعادته لوقت قصير إلى وجهه لكنها لم تعده إلى العالم، فالرجل مسكون بهيامه الإلهي وأصابع أسقطها اتحاد الشطرنج من خارطته فقررت البقاء في العراء.

لم يبق شيئًا من إرث آل حقي في دمشق بعدما أكلت الحرب كل شيء

الخطة التي يتعلم منها رواد المقهى من شباب اتحاد الشطرنج كيف واجه اللاعب الروسي وهزمه بحركة واحدة، وبعدها يبدأ بسرد رحلاته إلى مدن العالم التي زارها بطلًا سوريًا ومشى في شوارعها وحجزت له الفنادق والملاعب، وفجأة تقف الذاكرة المتوهجة ويمضي رافعًا بنطاله المتسخ نصف عارٍ من كل شيء.

غاب بعدها البطل شهورًا ربما في مكان آخر، صار الزبائن عبئًا عليه، والنظرات تطارد أصابعه العابثة، والرقعة المتسخة التي لم تفارقه لم تعد من بين أسماله، ربما نسيها في بيته الجديد في حديقة البرلمان، حيث ينام مالك بيت المالكي ووريث آل حقي متماهيًا مع ضياع مدينة وتاريخ.

أصدقاء عماد حقي يؤكدون تشخيص حالته بمرض التوحد. يبدو مرضًا مرضيًا للراغبين بالبقاء هناك بين موتين: إما الرصاصة أو الجنون. على إشارة مرور الشعلان مقابل دار السلام بالضبط كان حقي يجلس محدقًا في ألوانها مستعدًا، لنقلة حاسمة ربما من قذيفة هاون عمياء تقول له: كش ملك.

اقرأ/ي أيضًا:
يا ويلنا من بعدك يا كاسباروف!
نكهة سورية "حلوة ومرة" في غزة