29-أكتوبر-2021

بشير البكر ومجموعته "ما بعد باريس"

ألترا صوت – فريق التحرير

نشر الشاعر بشير البكر مجموعته "ما بعد باريس" عام 2011 في دار النهضة العربية، وكتب عنها في ذلك الحين الشاعر والناقد العراقي صلاح حسن واصفًا الشخص الذي يظهر في قصائد المجموعة: "يبدو الشاعر شخصًا عابرًا وغريبًا يتسكع في الطرق لا يعني أحدًا ولا يعنيه أحد، يخاطب البحر والسماء والطبيعة في إشارة واضحة إلى وحدة العابر الذي يبحث عن مكان دافئ وامرأة في حرارة هذه المدينة البراقة من الخارج والمحترقة من الداخل. لكن الشاعر بعد سنة كاملة يترك البحر والسماء والأشجار وينهمر على محبوبته التي التقاها في بيروت، لتكون مادة خصبة لهذا الكتاب الذي يدلُّ عنوانه على مرحلة انتقالية مختلفة تمامًا عن حياة سابقة في المدن الأوروبية".

أما "بكاء على السين" القصيدة التي اخترناها فتحكي التراجيديا الداخلية للعاشق الغريب، أو المتغرب في هجرانه، إذ يجلس وحيدًا في مقهى وليس معه سوى أسباب الشوق وواقع الفقدان. وفي الوقت الذي يبدو فيه يائسًا من وطأة الهجران يظهر أنه، للمفارقة، متمسّكًا بغربه وكأنها الحياة ذاتها. تلك هي مكابدة العاشق في مصارعته لغياب يُبقي حواسه في حالة يقظة لاستحضار امرأته الغائبة.

يُذكر أن بشير البكر شاعر وكاتب وصحافي سوري، صدرت له المجموعات شعرية الآتية: معلقة الكاردينال، قناديل لرصيف أوروبي، أرض الآخرين، ليس من أجل الموناليزا، ما بعد باريس، عودة البرابرة، آخر الجنود. وفي السياسة صدر له: القبيلة تنتصر على الوطن، القاعدة في اليمن والسعودية. تُرجمَ عدد من أعماله إلى الفرنسية، والإنجليزية، والتركية. عمل في عدة جرائد وصحف عربية منذ 1980، ونال عام 2008 جائزة الصحافة العربية. شارك عام 2013 بتأسيس صحيفة العربي الجديد، وعمل رئيسًا للتحرير حتى منتصف 2019. عمل رئيسًا للتحرير في تلفزيون سوريا.


أريد أن أشرب كأسي

بجوار غرباء آخرين.

أن أبقى بمفردي

أحدق في المارة

وهم يرفعون مظلاتهم

لتحية المطر.

أرسل دخان سيكارتي

من خلف زجاج المقهى

مثلما في لحظة فقدان أخير لامرأة

رحلت كثيرًا

وفي كل مرة

لا تضع نقطة على سطر الغياب.

 

لا أريد

أن يراني أحد

قرب وحشة هذا الرخام البارد

والنهر الذي يسيل

بلا جيران او أصدقاء

حارسًا ذكراه منذ قرون

تحت قمر شهواني

يكسو الأسرة بالذهب

ويغادر كل مساء

مثل حصان أبيض

يعدو على قارعة الطريق

دون أن يكترث أحد بأسراه النائمة فوق الشفاه الناعمة

في ليال من اليقظات الطويلة

كانت الأجساد فيها تلتحم

ثم تتبعثر في ملايين الأشواق المقيمة.

 

كم هو متعذر علي

في هذا المساء

أنا الذي ينهكني الليل الواقف وراء الأبواب

أن أفتح المظلة

وأطوي القصيدة

في كلام يتباطأ

مخافة أن أقطع الوريد

قرب صورتك الباقية

تحدّق بي في ليل طويل.

 

هنا في هذه الزاوية

يحتفظ المرء بشكله القديم

بعيون الغرباء الذين يراقبون النساء

يعبرن واحدةً واحدة

كما لو أن الليل

سوف يتجرد من جسده العاجز

ويغرق في الشهوة.

هنا في هذا الركن

أبكي مغلوبًا على هواي

كما لو أن الأمل

لم يعد كافيًا

لإيقاظ القلب الذي يتحدث إلى نفسه طيلة الوقت

ليست لدي فرصة

لأرمي نفسي في هذا الليل

وأنا محاصر بالمصحات العقلية

لا أريد للطائرات المسافرة

أن تقترب مني

ملايين اللحظات التي أهدرتها هنا

قرب شموع تحترق

بلا تاريخ خاص

ما عدا أنا

ماذا سيحدث بعد ذلك

أريد أن أظل كالذئب

في الساعة الخامسة والعشرين

أعوي أمام نفسي

على تلك الطريقة البابلية

التي سينتهي عليها العالم ذات يوم.

 

لن يسمع أحد أنيني

لا أريد

أن تختلط روائح النساء بدخان سكائري

لتبقى دموعي

تذهب نحو السين بصمت

مثلما ينهمر الدخان من زهر الماريغوانا

بسرعة مليون ميل في الساعة المثبتة عنوة فوق روح قلقة

وهي تنزع عن نفسها رداء الجنون

لتمكث في قعرها

بينما تحدق بوردة الأبدية الخالدة

طالعة لتوخا من قصيدة لألان غينيسبيرغ.

 

أريد

أن أظل معتصمًا في هذا الركن

وحيدًا

لا يتعرف عليّ أحد

كأسي على مقربة مني

ودخان سيكارتي

يلف الكون بالنيكوتين الأشقر

وهو يتسلل في مساماتي

كنبيذ الصيف.

 

لا أريد

أن يأتي أحد

في هذا المساء

ليأخذني من حنيني

ويصرفني عن شهوتي للرحيل

فها هو الليل يتقدم بطيئًا

بخطوات الندم

لست بحاجة بعد الآن

لأكثر من شفرة حادة

تلمع في ضياء النيون البارد.

 

  • باريس

15 نيسان/أبريل 2010

 

اقرأ/ي أيضًا:

كاظم جهاد: عراقيون

زياد العناني: خزانة الأسف