تحت عنوان "جهة الصمت الأكثر ضجيجًا"، يطلّ الشاعر شوقي عبد الأمير على قرّاء ألترا صوت أسبوعيًا في حديث أو مقالة في محبة الشعر وأهله.


منذ سنوات عدة قدّم الشاعر محمد بنّيس مقتطفات شعرية من أعمال الشاعر الفرنسي المعروف برنار نويل في مجموعة ضخمة تقع في 450 صفحة اختارها من دواوين الشاعر الصادرة في الفترة بين 1983 و1993 وهي من مجموعاته: "قصائد 1" و"ذكريات الشاحب" والاسم نفسه" و"سقوط الأزمنة".

ولعلها كانت المرّة الأولى التي يُقدّم فيها برنار نويل بالعربيّة بهذه الكثافة ومن هنا تأتي مساهمة محمد بنّيس لتردم ثغرة كبيرة لأن شاعرًا مهمًا بالفرنسيّة مثل برنار نويل لم يُترجم له لحد الآن أي ديوان كامل أو أي نص روائي أو مسرحي وقد كتب الكثير وهو من الأسماء التي تحتل الساحة في فرنسا اليوم.

أطرق برنار نويل وقال: "إن حالة الانبهار والدهشة المجهولة الغريبة في عدن هي حالة الشعر بالنسبة لي"

وكنت قد نشرت في الثمانينات بعض الترجمات من قصائد نويل وقدّمته في اليمن بين صنعاء وعدن في أكثر من لقاء، وكانت أولى لقاءاته بالعالم العربي في المشرق على الأقل.

اقرأ/ي أيضًا: مختارات من "كحول" غيوم أبولينير

عرفت برنار نويل منذ قرابة ثلاثين عامًا، أضف الى ذلك أنه أشرف على ترجمة ديوانين لي الى اللغة الفرنسيّة وقدّم لهما، ومن هنا تأتي صعوبة الكتابة عنه بالنسبة لي. ولهذا فإن القارئ يجد العديد من الإشارات الى لقاءات وحوارات مع الشاعر فأنا كنت في لقاء دائم وحوار متواصل معه.

كُنّا في صيف عام 1989 نتجول في عدن، هذه المدينة التي لا تُحتمل شتاءً من حرّها ورطوبتها، "صخرة - رامبو - البشعة" و"الثقب" الذي دخله هذا الأخير وهو يعبر البحر الأحمر ليستقر هناك سنوات وسنوات...

أجل كُنّا نقضي الأسبوع الأول من شهر آب/أغسطس نتساءل عن "آثار نعال ريح" مرّ بهذه المدينة قادمًا من شاريفيل مدينة رامبو التي لا تبعد إلاّ بضعة كيلومترات عن ريف منزل برنار نويل شمال شرق فرنسا. وعدن لا تشتهر بجمالها كصنعاء ولا بجبالها ذات المدرجات كمدن الشمال اليمني ولا حتى بعمائر الطين الرائعة التي في حضرموت.. ولكننا مع ذلك كنّا فيها مشدودين كوترين لسحر ما، لسؤال، لانبعاثٍ مجهول، لجمال غير مرئي، لحضور لا نعرف كيف نتلمس حدوده، لغياب آسر، لشيء، لأشياء.. وكنّا نتساءلُ عن معنى ذلك؟ ما هو السرّ في عدن، ولم جاءَها ولعنها وأحبها رامبو وهرب اليها من باريس بول نيزان ما هو سرُّ عدن؟

أطرق برنار نويل ليلة ونحن في حدائق فندق الهلال البريطاني الطراز القديم وقال لي: "إن حالة الانبهار والدهشة المجهولة الغريبة في عدن هي حالة الشعر بالنسبة لي".

الشعر ليس جمالًا بالمعنى الأستطيقي ولا صورة تخضع كل أطرافها لمنطق جمالي ومعنى يمكن الإمساك به. إن الجزء الغائب المغمور من النص الذي يفرض نفسه كحالة على المتلقّي هو الذي يستحق أن يسمّى شعرًا. إن هذا الغموض المدهش الذي يغمرنا كطقس وثني جمالي هو حالة شعرية والشعر يجب أن يكون بهذا المدى من التأثير والانطواء معًا. لا أتذكر حرفيّة حوارنا طبعًا ولكن هذا هو فحواهُ كما سجّلتُ بعضًا من ذكريات هذه الرحلة.

الجزء الغائب المغمور من النص الذي يفرض نفسه كحالة على المتلقّي هو الذي يستحق أن يسمّى شعرًا

اقرأ/ي أيضًا: في محبّة "أزهار الشرّ"

هنا يكمن برنار نويل شاعرًا كما أعتقد. انه كما عبر عن ذلك هنري ميشو واستشهد نويل به في ديوانه "وجه من صمت": "شيء ما يرغم شخصًا ما"، فعل يربط مجهولين ببعض "شيء ما" و"شخص ما" يجمعهما فعل "يرغم" ليقيم بينهما حالة الشعر.. ولكن على رغم الانبهار بالغموض فإن برنار نويل يظل:

"شديد العطش الى المعنى

لقد شُربَ المعنى

والمستقبل راكد".

اقرأ/ي أيضًا:

أجل يحفر بنار نويل بحثًا عن المعنى وأول أدوات الحفر لديه هي النظر المجرد.. انه أكثر كتّاب فرنسا اهتمامًا بالرسامين وبالنظر كحالة ذهنية شعرية عميقة جدًا.

وهو شديد الإعجاب بعالم الآثار والمؤرخ الفرنسي الشهير لوروا غورهان الذي كتب الكثير عن أصل اللغة ونشؤها لدى الإنسان، تشدّهُ عنده نظريات أثرية حدّثني بحماسة عن أحدها في نشوء اللغة وهي مقولة لوروا غورهان بأن الإنسان اكتشف اللغة بعد أن أصبح يسير على قدمين وأطلق رأسهُ في الفضاء حيث صار يرى العالم.. وهنا انتقل بنظره وشفتيه أمام المدى فابتكر الكلام.. ولو ظل على أربعة قوائم، فمهُ وعيناه الى الأرض لما نطق.

المتأمل لشعر برنار نويل يجد أن هذا الكاتب ينطلق بعمق من هذه المقولة التي تفيدنا بأن اللغة هي اكتشاف جاء بعد أن تحققت رؤية العالم بعد أن اكتمل النظر الى الخارج، الى الأفق والى الأشياء بشكل متبلور وواضح.. وبالتالي فإن حاجة الإنسان الى التعبير جاءت كنتيجة لإشباع حاجته من النظر والتأمل فيما حواليه. هذه الفلسفة في ابتكار اللغة يمكن أن تنطبق على نص برنار نويل الشعري الذي يعطي للنظر وللمراقبة البصرية أهمية قصوى في الكتابة الشعرية، وكأن الشعر يجيء في مرحلة ثانية من تعميق الرؤية للأشياء، أي أنه قراءة عمودية، بشكل ما، للنظر في الخارج وهكذا تكون اللغة قد جاءت بعد أن اكتمل النظر الى العالم الخارجي وجاء الشعر بعد أن تعمّق هذا النظر في أشياء الخارج. من هنا يمكن أن نواكب مغامرة برنار نويل الشعرية التي يزدوج فيها الذهني والتشكيلي في نص هو بالأحرى حفر في الدلالة لأن نويل لا يؤمن بما يُعرف بالدفق الشعري كما هي الحال لدى السورياليين على رغم أنه يتداخل مع الصورة السريالية من حيث حريّة وغرابة العلاقة التصورية والتشكيل المباغت:

"البخارُ

ضفيرةُ فتاة

والفعل

كحرث

للريح".

لكنه لا ينسى علاقة النظر بالخلق كشكل لهندسة النص وكبنية ملموسة مرئيّة للصورة يذهب بها الى أبعد أشكال تفجير هذا النظر ليس شعريًا فقط.

"الثورةُ

إذًا

نظرةٌ

هي أحيانًا

في الداخل أحيانًا

في الخارج

هي

عندما ترى".

لا يمكن لبرنار نويل أن يكون أوضح من ذلك في علاقته بالنظر، النظر المجرد وليس الرؤية الفنيّة كما هو المتعارف في النص النقدي.

فـ"العينُ

هدفُ الصُّور".

بكل بساطة، في العين أولًا يكمن تصور العالم ومن ثم تأتي الذاكرة والذهن:

"تعرف النظرةُ كُلَّ

وأذني لا شيء".

هكذا يحصل لديه حتى إلغاء الإصغاء في عملية الخلق.. يأتي الإصغاء كما التفكير بعد النظر.. هنا يمكن وضع خصوصية لعمارة نصيّة لدى نويل ومن هنا أيضًا يمكننا تلمس نصه المنحوت كحجارة صقيلة في لغة فرنسية يحبّها نويل ويعشق أن يترجم منها واليها روائع نصوص الشعر العالمي.

عُرف برنار نويل أيضًا بموقف سياسي معارض للبرجوازية ليس بالضرورة من منطلق حزبي ماركسي، ولو أنه واكب الحركة اليسارية الفرنسية عن قرب

عُرف برنار نويل أيضًا منذ نصوصه الأولى بموقف سياسي معارض للبرجوازية ليس بالضرورة من منطلق حزبي ماركسي، ولو أنه واكب الحركة اليسارية الفرنسية عن قرب، وخصوصًا في السنوات الأخيرة التي يظل فيها قريبًا من الحزب الشيوعي الفرنسي.

اقرأ/ي أيضًا: فيليب جاكوتيت: أكتبُ بلغةِ الضّوءِ والماءِ والعشب!

هاجس العدالة ومعاداة البرجوازية كامن في نص برنار نويل وفي سلوكه الحياتي، فقد دخل السجن في الستينات عندما كان في مقدمة التظاهرات التي تطالب باستقلال الجزائر، واستمر على هذا الخط حتى رحيله فهو من أشد وأكثر الأدباء الفرنسيين صراحةً في دعمه للقضية الفلسطينية ومناداته بحقوق الفلسطينيين في كل المحافل الأوروبية والعربية عندما تسنح له فرصة الالتقاء، وقد زار أخيرًا رام الله والقدس ونشرت أكثر من مقابلة رائعة معه.

لا بد لهذا الموقف السياسي، لدى كاتب مثل برنار نويل، أن يأخذ شكله الفني لأنه ليس مجرد موقف حزبي أو إنساني ولهذا فإن نصّه امتاز منذ البدء برائحة الاشمئزاز من طبقة يعتبرها أساس انهيار القيم الإنسانية في المجتمع وصار يحاربها من داخل قيمها ودهاليز وجودها موظفًا الجنس كأداة لذلك والجنس لدى نويل هو السلاح الأقصى لاختراق هذه الطبقة المهيمنة على المجتمع فهو يُسخّرهُ بـ"قرف" ومبالغة دائمًا للتعبير عن سخطه على الطبقة المعادية له ومن هنا جاء العديد من مسرحياته التي منعت في فرنسا. حين صدورها في الستينات مثل "قصر السين" ولا تفارقهُ الصور الحادّة التي تثير الاشمئزاز المقصود: ليلٌ عظمٌ

مزيّنٌ بالبول".

بالطبع هذه المواجهة مع العالم الرأسمالي في إظهار أشد حالات القرف والاشمئزاز هي امتدادات دادائيّة ووجوديّة ولكنها أخذت شكلًا مستمرًّا داخل نصوص برنار نويل للتعبير عن حاسة تدميرية للمجتمع من خلال تشويه أجمل ما يعشقهُ ويتغنّى به كالحب والجنس والاستعراضات في المحافل الليليّة التي تشتهر بها باريس.

برنار نويل هو أيضًا كاتب الظلال العميقة، ملون الأبعاد التي تتداخل فيها الخطوط وتتلاشى الحدود

وبرنار نويل هو أيضًا كاتب الظلال العميقة، ملون الأبعاد التي تتداخل فيها الخطوط وتتلاشى الحدود، مأخوذ بالمعنى مثل أعمى يستند الى عصاه.. لا يفلتُ خيط المعنى من برنار نويل وإلاّ ضاع.. برنار مثل عالم آثار يحفر بإبرة لأنه يقرأ الذرّات في المنطقة التي يحفر فيها وهذه الدقة، هذا الحفر بالإبرة يمكن تلمسّهُ لديه:

"في اسمي

جدارٌ شفاف يفصلني عن نفسي"

هذا التداخل المتلاشي حيث جدارُ الاسم يفصل الأنا عن الذات.. هنا في هذه المنطقة يتقرّى برنار نويل طريقًا يترك لنا آثاره على الورق ويظل متخفيًا، غائبًا بعيدًا فهو يقول:

"لو كنتُ حاضرًا في اسمي

لما كان لإسمي معنى"

هكذا إذًا لدى نويل، الحضور والاسم ندّان. تتسع المسافة بين الأنا والأنا ليبقى الشاعر يحفر موقعَهُ بإبرة النص وفي الأخير يحدث التحول:

"لم أعد بعدُ شخصًا

أنا اسمي"

بالطبع يحاول نويل تفجير الحالة الذهنيّة بإشعاع النظر ومادة اللغة المعتمة دائمًا حينما يخترقها بلهب المعنى، مثل كاهن يدخل ليلًا الى معبده وفي يده شمعة.

اقرأ/ي أيضًا: "أماسي جورج شحادة" كما يحكيها ماركوس هيدجر

إن الترجمة التي قدمها لنا الشاعر محمد بنيس تضيء العديد من أرجاء العمارة النصيّة لبرنار نويل وهو بهذا قدّم الى العربيّة انجازًا مهمًا لأهمية الكاتب ولجمال الترجمة وحيويتها.

إننا نقرأ نصًّا حيًّا لنويل في لغتنا وهذه عملية ليست بالسهلة ولا البسيطة خصوصًا مع برنار الذي يُلوّن ظلاله عميقًا في أرجاء لغته الفرنسيّة، إلا أن محمد بنيس في بعض المواقع ظل قريبًا من اللغة الفرنسية ولم يجرؤ على مداهمة منطقها وكسره ونقل النص الى منطق العربية.. نجد نماذج لهذه الحالة في بعض القصائد، لكنها ليست كثيرة وأذكر على سبيل المثال منها:

"لونُ الفم الفاتحُ

ننادي على الـ

المداعبات

بغض النظر عن الـ

تفاهم"

لم أرجع إلى مقاربة هذا المقطع في النص الفرنسي، لاعتقادي بأن النص الناجح يجب أن يكون في اللغة الجديدة، ولا يهمّني إذا كان هذا النص العربي هو صورة طبق الأصل للفرنسي. المهم أن هذا المقطع ليس منجزًا ولا دالًا في العربيّة.

بقي أن لا أعود الى برنار نويل الشخص، الرجل الذي عُرف بنقائه وعدم احتوائه من قبل أية حركة سياسية أو منصب أو موقع اجتماعي، برنار الذي ظل متمردًا يؤسسُ هنا ثم يهجر ما بناه ليمضي بحثًا عن حرّيته وهكذا هو مع المرأة، هكذا هو مع المؤسسة، هكذا هو مع الأحزاب، انه يقترب منها ويتداخل بها ثم فجأة يغادر.. ولكنك إذ تلتقيه تجده هو هو عاشقًا مرهفًا للحرية، للجمال وللإنسان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

راينر ماريا ريلكه: خمسة أناشيد

باسكار شاكرابورتي: أوقات عصيبة