01-ديسمبر-2021

فيليب جاكوتيت (1925 - 2021)

دخل الشاعرُ الفرنسيّ فيليب جاكوتيت (1925 - 2021) في محراب سلسلة البلياد "غاليمار" المخصّصة للكبار العالميين، أمثال شكسبير وموليير وديدرو ولوركا وأندريه جيد وغوته وسيلين وريلكه وبلزاك وبوشكين وهولدرلن. ومع أنّ هذه السلسلة من الأعمال الكاملة تُخصّص عادة للراحلين، فإن استثناءات ما كسرت القاعدة، ليدخل إليها مؤلفون وهم أحياء وآخرهم فيليب جاكوتيت. وقد يدخل في الأشهر المقبلة لو كليزيوفهل يستحق هذا الشاعر المنعزل في الطبيعة، في كسوره، ووحدته، وفي تجربته غير المنتمية إلى أيّ تيار أو مدرسة؟

في الواقع هذا الشاعر، كأنّه آخر الشعراء الغنائيين من القلب إلى القلب. لكنها غنائية مكثفة غير مكشوفة، تلمع أحيانًا من غموضها، أو من شفافياتها الغامضة، لكن من دون تعقيد أو إبهام فهو ليس لاعب أشكال، ولا مفجّر لغات، ولا هاوي نحت، أو حفر، أو كسر. على العكس، بساطته تشبه بساطة بول إيلوار أو ناظم حكمت، أو لوركا لكنها بساطة مفخخة، مركّبة في تجربتها اللغويّة، مصفّاة في بنيتها وقاموسها، يذكّر بأشعار الكبير جورج شحادة أو الإيطالي يوغاريني. مع هذا، وعلى الرغم من تأثره بالشّعر الفرنسي، فإننا نجدُ في قصائده ما يُحيل إلى شعراء ألمان كهولدرلن، وخصوصًا جورج تراكل.

كأنّني أراهُ تسرَّب إلى معماريّة البلياد المُفخَّمة كدمعة، أو كهمسة، أو كقطرة جدول.. أو بريق نجمة، أحببته مُذ تعرّفت على شعره قبل نحو 40 عامًا، وترجمتُ له قصائد في مجلّات عديدة. ضاعَت وضاعَت معها تلكَ الذكريات، كما يضيعُ أيّ شيء.


أوان البذر

I

كنّا نتمنّى الحفاظ على النّقاء،

للشرّ ما يفوقُ الحقيقة

 

كنّا نتمنّى ألا نُكِنّ ضغينةً

مع أنّ العاصفة تبلبلُ الحبوبَ

 

من يعلمُ؟

كمْ أنّ الحبوبَ خفيفة

يشكِّك في عبادةِ الرّعد.

 

II

أنا خطُّ الأشجارِ غير المُلتبس

حيثُ تخفقُ حمائمُ الهواء بأجنحتها!

أنتَ الذي نداعبهُ حيثُ يولدُ الشّعر...

لكنْ تحتَ الأصابع التّي خيّبتها المسافة

تنكسرُ الشّمس النّاعمة كقشّة.

 

III

يتربّعُ النهارُ فيّ كَثَورٍ:

كأنّما على وشكِ الاعتقاد بأنّه قويّ...

 

لوْ كانَ بالإمكانِ تركُ التوريرو

وتأخيرُ تنفيذِ الموتِ قليلًا.

 

IV

آه

! أيّام الرّبيع الأولى

لاعبينَ في ساحةِ المدرسة

بينَ حصتين منَ الرّيح.

 

V

أنا متلهّفٌ وقلق:

منْ يعرفُ الجروحَ؟

ومنْ يعرفُ الكنوزَ التي تحملُها حياةٌ أخرى؟

يستطيعُ ربيعٌ

أنْ يتفجَّرَ فرحًا أو يهبّ نحوَ الموت.

ها هو الشحرور!

فتاةٌ خائفةٌ

تخرجُ من بيتها.

العشبُ في العشبِ الرّطب.

 

VI

مِن مسافةٍ كبيرة

أرى شارِعًا بأشجارٍ

منازلُهُ

والهواءُ المنعشُ للفصلِ

الّذي غالبًا ما يغيّرُ وجهتهُ

عربةٌ تمرُّ بأمتعةٍ بيضاء

تحتَ نبتِ أحراجِ الظّلال

الأيامُ تمضي إلى الأحلام

وما يتبقّى لي

في وقتٍ ضئيلٍ أحصيه.

 

عصافير.. أزهار وثمار

قشةٌ عاليةٌ جدًا في الفجر

هذه الهبّة

التّربة

ما الّذي يعبرُ من جسمٍ إلى آخر؟

نبعٌ خرجَ مِن مهدِ الجبال

لا نسمعُ

فقط عصافير بين الحجارة

بعيدًا جدًا

مطارقُ.

*

 

من حيثُ يرتفعُ هذا المطر

لا أملَ في الدخول

ولهذا السّبب يقلقني

ويجعلُني أسهرُ طويلًا.

*

 

كلُّ لون

كلُّ حياةٍ

تولدُ حيثُ تتوقَّفُ النّظرة

 

هذا العام ليس سوى عرف

من حريق لا نراه

*

 

أمشي

في حديقةٍ منَ الجمرِ الطّازج الطريّ

تحتَ مظلّة الأوراق

*

 

ما يشتعلُ ممزِّقًا الهواء

الورديّ، أو بتمزّقات مفاجئة

أو بابتعادٍ ثابتٍ

مضخّمًا اللّيل

الجبلُ على منحدريه

يغذّي نبعيَ منَ البكاء.

*

 

كلُّ شيء في نهاية اللّيل

عندما يرتفعُ هذا الهبوبُ

شمعة أولًا

ترتعشُ

 

قبلَ العصافير الأولى

مَنْ في وسعهِ السّهر

الرّيح تعرفُ ذلك

التي تجتاز الأنهار

هذه الشُّعلة،

أو دمعةً مقبولةً

علامةً للعابر.

*

 

العين:

نبعٌ يتدفقُ

لكنْ من أينَ جاء؟

مِن أبعد الأبعد

مِن أسفل الأسفل

أظنّني شربتُ العالم الآخر.

*

 

النظرةُ

شعاعٌ أحدُّ من اللّسان

سباقٌ من مكانٍ إلى آخر

من الأعمق الى الأبعد

من الأشد عتمة الى الأشد نقاء

حيوان كاسر.

 

صاعقةُ آب

ثمارٌ معَ الوقتِ أكثر زُرقة

كأنّما نائمة تحتَ قناع من الحلم

في القشّ المشتعل

وغبارُ ما بعدَ الصّيف

ليلة متمرئية

لحظة تحب فيها

أنّ الينبوع يحترق

هم طير الترغل

أول خطوة في النهار

كاسرة ما يربطها اللّيل.

 

حقل تشرين الأول

 

الرّقة المتناهية

مجسّدة بعيدًا

على الحدود بين الجبال والهواء:

مسافة/ شرارة طويلة

تمزق، ترهّف

نهارًا كاملًا الأصوات المتواضعة

لعصافير غير مرئية

السّاعة تضرب في العشب على ورقة من ذهب

السّماء بمقاس أكبر

 

الأرض كلّها ظاهرة للعيان

وقابلة للقياس

ملأى بالوقت

معلقة بريشة تصعدُ

أكثرَ فأكثرَ مشعّة.

 

تفاحات متفرقة

على مساحة شجرة التفاح

بسرعة!

فليحمّر الجلدُ

قبل الشتاء.

 

فجرٌ

يؤلمُني التخلّي عن الضّوء

يجب أن يخترقني المحراثُ

مرآة الشّتاء،

العمرُ

يجبُ على الزّمن أنْ يحصدَني.

 

شجر

عالمٌ مُلتبس

 صفيقٌ

عظامٌ وحُبوب

تنازع بصبر

لكي تكون كلّ سنة

مخترقة بالهواء.

 

أشجار

سأحفظُ في نظرتي

كجمرة أقرب إلى المغيب منها إلى الفجر

وهي نداءٌ ليس للنهار بل للّيل

شعلةٌ تريدُ أن تختبئ بالليل.

 

ستكون هذه العلامة عليّ

علامة الحنين إلى اللّيل

أعبرها

بمِشذب الحليب.

 

ستكونُ في عيني على الدوام مع هذا

وردة غير مرئية من الأسف

كما عندما فوق بحيرة

يمرُّ ظل عصفور.

 

وغيومٌ عالية جدًا في الهواء الأزرق.

والّتي هي عقودٌ من الجليد

بخارُ الصّوت

الّذي نُصغي إليه صامتًا إلى الأبد.

 

عالم

ثِقلُ الحجارة، الأفكار

الأحلامُ والجبال

ليس لها الميزان ذاته

ما زلنا نعيشُ عالمًا آخر

ربّما المسافة.

 

زادُ المسافر

عصفورٌ خارجٌ مِن مصهرِ الحديد

في غبارِ بعد الظهر

في رائحةِ الزّبل

في ضوء الشارع

عسى أن تكون رأيته فقط

من دون أن تفهمه

قبل أن أغيّر القرية

ألم يكن

غير القابل للتدمير؟

عالم وُلد من مِزقة

ظهر لكي يكون دخانًا

 

مع ذلك المصباح مشعل

على القراءة اللامتناهية.

 

أمان

I

اشتهيتُ طويلًا الفجر

لكنْ لا أتحملُ منظرَ الجروح

متى تراني أكبرُ؟

 

رأيت الشيء صَدَفيًا

أعليّ إغماض عيني؟

 

إذا كنتُ تُهتُ

فقودوني الآن

السّاعات مليئة بالغبار.

 

ربّما في مزجِ الألم مع الضّوء

شيئًا فشيئًا

أتقدّم خطوة؟

 

في المدرسة المجهولة

تعلم الطريق التي تعبر

من أطولها وأسوئها.

 

II

ما ترى هو الغناء

لا شيء سوى نوع من النظرة.

 

إذا كان لا يزال قادرًا على الإقامة في بيت

على طريقةِ العُصفور

الّذي يعشعشُ حتّى في الرّماد

ويحلقُ عبر الدّموع!

 

لو كانَ قادرًا فقط على أن يحتفظ بنا

حتى نخلطَ بيننا

وبين الحيوانات العمياء!

 

III

بعد مجيء الليل

أجمع كل شيء في الأرضِ المسيّجة

 

أجتلبُ؛ ليلًا

نظّفِ الحوض

للنجوم

 

 

رتِّب القريب

أريج في المدى

كجلبة الجرس

حولك.

 

دروس

 

فيما مضى

أنا المرتعبُ، الجاهلُ، الذّي بالكادِ يعيشُ

أغطي عينيَ بالصّور

زعمتُ أنْ أرشدَ المُحتضرين والموتى.

 

أنا الشّاعرُ الملتجئ

الهامشيُّ الذي بالكادِ يعاني

أتجرّأ على رسم طرقٍ في الهاوية.

 

في الوقت الحاضر، المصباح مطفأ،

يدٌ أكثر شرودًا، مرتعشة

أعاود البدء ببطء في الهواء.

 

العنب والتين

تحضنها في البعيد الجبال

تحت الغيوم البطيئة

والطراوة

أما زال في إمكانها مساعدتي؟

تأتي لحظة ينام فيها البكر

المنهوك. نرى

من يوم إلى آخر

خطوة أكثر ضياعًا.

 

لم تعد المسألة تتعلق بالعبور

كما الماء بين العشب:

فهذا لا يدور.

 

مع هذا فالمعلِّم الصارم

بسرعة يُنقل بعيدًا جدًا،

ابحثْ عما يمكن أن يتبعه:

لا مصباح الثمار

لا العصفور المغامر

لا أنقى الصور

 

الأجدر الغسيل والماء

اليد التي تسهر

الأجدر القلب الذي يعاني.

*

 

لم أعد أريد سوى إبعاد

ما يفصلنا عن الضوء

وأخلي فقط المكان

إلى الطيبة المحتقرة.

 

أصغي إلى رجال شيوخ

تحالفوا في النهار

أتعلم من أقدامهم الصبر

ليس لديهم تلميذ سيئ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لويس سيمبسون: من يقطن هذه البيوت المعتمة؟

إيثيريدج نايت: هايكو