انسداد الأفق السياسي والنضالي للقضية الفلسطينية، والمأزق الذي وقع فيه الشعب الفلسطيني نتيجة اتفاقية أوسلو وتبني برنامج حل الدولتين من قبل منظمة التحرير، وتمسك السلطة الفلسطينية بهذا البرنامج رغم انقضاء المرحلة الانتقالية التي حددت بـ5 سنوات من أجل إقامة دولة فلسطينية على عام 1967؛ كل ذلك أعاد طرح حل الدولة الواحدة إلى الواجهة من جديد. 

الدعوات التي برزت مؤخرًا لإحياء حل الدولة الواحدة، تستند إلى إرث متشابك وطويل

تأتي هذه العودة بالتزامن مع عدد من تقارير منظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس واتش وأمنيستي ومركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان- بتسيلم، التي أشارت في تقاريرها الأخيرة، التي تتناول الوضع في فلسطين، أن الواقع القائم على الأرض هو واقع الدولة الواحدة، وأن إسرائيل تسيطر على كافة أرض فلسطين، ما بين البحر والنهر. فما هو هذا النموذج الذي تم اقتراحه لحل الصراع العربي الإسرائيلي؟

طرح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

إذا كان هذا الطرح قد ظهر عدة مرات، على لسان سياسيين ووزراء خارجية وصحفيين وغيرهم، عقب فشل المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، فإن لديه تاريخًا أطول وأعقد من مجرد تهديد يتم التلويح به أمام إسرائيل.

ما بعد نكبة 1948، وتهجير الشعب الفلسطيني من بلاده، كان أول طروحات الدولة الواحدة المتبلورة ضمن برنامج سياسي هو ما قدمته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1970 ضمن رؤيتها الاستراتيجية لتحرير فلسطين، وقد جاء فيها "أن هدف حركة التحرر الفلسطينية هو إنشاء دولة وطنية ديمقراطية في فلسطين يعيش فيها العرب واليهود كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات وتشكل جزءًا لا يتجزأ من الوجود الوطني العربي الديمقراطي التقدمي المتعايش بسلام مع كل قوى التقدم في العالم". هذا الطرح الذي جاء في مرحلة مبكرة نسبيًا من عُمر الثورة الفلسطينية بدأ يخفت سريعًا خاصة مع عدم طرحه ضمن استراتيجية واضحة على الأرض، أو تعزيز حضوره سياسيًا. ومع تعقيدات مسيرة الثورة الفلسطينية، انتهى طرح الجبهة الشعبية هذا، إلى تعقيدات شبيهة، ثم اختفى تدريجيًا.

بعد عقود، أعاد أحد مؤسسي الجبهة الشعبية نفسها وأمينها العام الأول، جورج حبش، الطرح قائلًا: "وصلت اليوم [2008] إلى استنتاج مفاده أن الدولة الديمقراطية العلمانية، هي الحل الوحيد للصراع بيننا وبين الإسرائيليين… فالعرب واليهود سبق لهم أن عاشوا معًا على مر التاريخ، لكن الإمبريالية هي التي استخدمت اليهود في العالم من أجل تحقيق أغراضها ومصالحها"، وهذه الدولة كما يرى حبش، في الحوار المطول الذي جرى معه ونشر بعنوان "الثوريون لا يموتون أبدًا" هي ثمرة نضال سياسي و/ أو عسكري.

نموذج فتح ما قبل "النقاط العشر"

بالتزامن وبعد طرح الجبهة الشعبية المبكر، قدمت حركة فتح برنامج الدولة الديمقراطية العلمانية للمسلمين والمسيحيين واليهود في فلسطين. هذه الفكرة لم تكن أساسية ضمن رؤية حركة فتح للصراع، وفي الأساس قُدمت من خلال تصريحات صحافية ومؤتمرات عقدها قادة الحركة في الفترة ما بين 1968- 1973، وبالأخص من قبل صلاح خلف (أبو إياد)، الذي تبنى هذا الطرح عدة مرات. لم يتم تقديم هذا التصور كبرنامج سياسي، بل كشعار في غالب الأحوال، لم يمتلك إجابات واضحة على العديد من القضايا الأساسية. كما أن طرح البرنامج المرحلي (النقاط العشر) عام 1973، والذي تحول إلى استراتيجية حركة فتح، جعل تداول هذه الفكرة محدودًا. إضافة إلى ذلك، فإن فتح بالأساس كانت تستخدمها خلال مؤتمرات دولية ولقاءات مع أحزاب من دول أخرى، ولم تتبلور كبرنامج داخلي ضمن إطر الحركة التنظيمية كما حصل لدى الجبهة الشعبية.

هذه التصورات تراجعت بشكلٍ كبير، عقب توجه منظمة التحرير وحركة فتح، نحو حل الدولتين، الذي أصبح الحل الرائج، ووُظف مشروع منظمة التحرير السياسي في العمل على تجسيده، وتوج باتفاقيات أوسلو.

بالإضافة إلى حركة فتح والجبهة الشعبية، كانت حركة أبناء البلد التي نشطت في المناطق المحتلة عام 1948، هي الأخرى قد قدمت برنامجًا يعتمد نموذج الدولة الواحدة خلال سنوات السبعينات، حيث اعتبرت الصهيونية حركةً استيطانية عنصرية تهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من وطنهم، مشيرةً إلى أن البديل هو إقامة مجتمع علماني ديمقراطي اشتراكي في نطاق وحدوي وتقدمي مع العالم العربي، يضم العرب الفلسطينيين واليهود على أرض فلسطين.

مثقفون فلسطينيون وعرب

هذه التحولات، ولاحقًا فشلها، دفعت المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد إلى طرح حل الدولة الواحدة، قبل أن يدعم حل الدولتين، ومن ثم يعارضه عقب اتفاقية أوسلو. ودعا سعيد وغيره من المثقفين الفلسطينيين إلى تبني نموذج الدولة الواحدة التي تقوم على المواطنة لأن نموذج الدولتين انتهى. لذلك، طالب هؤلاء المثقفون بدولة توفر لكل مواطن نفس الحقوق بناءً على فكرة العدالة وليس الدين أو القومية، ويتم ذلك من خلال رفض الاحتلال والاستيطان، وبجذب فئات من الإسرائيليين المقتنعين بالفكرة من أجل المساهمة في تحقيقها. ومن أجل تحقيق ذلك، تقوم مبادرة على أرضية مدنية إنسانية.

المفكر المصري عبد الوهاب المسيري، هو الآخر قدم تصورًا لحل الدولة الواحدة في ختام موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية" تقوم على ما أسماه "نزع الصبغة الصهيونية.. عن الدولة الصهيونية"، موضحًا أن الصراع ليس نتيجة كره عميق أو أزلي أو نتيجة عقد نفسية وتاريخية، لكنه تطور خلال سياق محدد، وأنه ينتهي في تفكيك هذه البنية، مشيرًا إلى عدم جدوى وإمكانية السلام طالما أن النزعة الصهيونية الاستيطانية موجودة.

كما قدم نموذج تصفية الاستعمار في جنوب أفريقيا، كمثال على إمكانية تحقق هذا الطرح. ويضيف أن الدولة تكون متعددة الأديان، ومندمجة في الإقليم على أرضية تحقيق مصالحه، وأن يمتلك كل الموجودين الآن في فلسطين حق المواطنة، مع التأكيد على حق العودة، معتبرًا أن هذا الطرح قد يبدو "جذريًا ومثاليًا"، لكنه بالتأكيد أفضل من الأمر الواقع.

دولة لجميع مواطنيها

فكرة شبيهة لحل الدولة الواحدة، تخلقت من خلال حزب التجمع الديمقراطي في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وعلى نحو خاص من خلال النشاط الفكري والسياسي للمفكر العربي عزمي بشارة. اقترح بشارة نموذج دولة لجميع مواطنيها، في تحدٍ للامساواة العميقة التي تقوم عليها إسرائيل، وفي إشارة إلى أن مساواة بين اليهود والفلسطينيين كمواطنين لهم حقوق فردية وجماعية سياسية، هو أحد المسارات العملية لتصفية الاستعمار.

ساهم أخذ هذه الفكرة إلى النشاط السياسي على الأرض وتحويلها إلى برنامج سياسي، إلى مقاومة الأسرلة التي كانت تجتاج المجتمع الفلسطيني في الداخل بعد توقيع اتفاقية أوسلو، والشعور العام بأن منظمة التحرير قد تخلت عن فلسطينيي أراضي عام 1948. مع ذلك، فإن هذه الأفكار تراجعت كاستراتيجية سياسية على الأرض، بعد التحولات الحاسمة في الداخل الفلسطيني، ودخول اليمين الإسرائيلي في قلب الاستقطاب العربي العربي. 

هذه الأفكار حول حل الدولة الواحدة تحولت إلى نقاشات أكاديمية- سياسية، يتداولها أساتذة جامعة ومناضلون سياسيون وباحثون ومثقفون، وتم طرحها ضمن مؤتمر مدريد ولندن عام 2007، واستكملت نقاشاتها في مؤتمر بوسطن عام 2009، وحاولت أن تناقش الاستراتيجيات والتدابير اللازمة من أجل تحقيق حل الدولة الواحدة. لكن هذه النقاشات في مجملها لم تتحول إلى قوة سياسية على الأرض.

كما أحد أكثر الحملات نشاطًا في طرح الدولة الواحدة، هي حملة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين الانتدابية التي انطلقت عام 2018 وتعرف عن نفسها بأنها "مبادرة تحررية وديمقراطية، تنادي بإنهاء نظام الأبرتهايد الكولونيالي الصهيوني، وتناضل من أجل حل الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية، التي تقوم على أساس العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويعيش فيها الفلسطينيون واليهود الإسرائيليون بمساواة حقيقية".

 وفي المجمل يمكن القول إن معظم الحلول التي طرحت بعد اتفاقية أوسلو، كانت في أساسها مرتبطة بالواقع السياسي، وناجمة عن فشل خيار السلام، حتى لو كانت تعبر عن أفكار مبدئية لأصحابها بضرورة إنهاء الشرط الاستعماري القائم في فلسطين، على عكس الطروحات الفلسطينية الأولى التي جاءت في حالة نضالية مختلفة، وهذا يرتبط في إمكانية نفاذ الفكرة وتحويلها إلى برنامج سياسي، يمكن تأطيره أو التحشيد من أجله.

الأفكار حول حل الدولة الواحدة تحولت إلى نقاشات أكاديمية- سياسية، يتداولها أساتذة جامعة ومناضلون سياسيون وباحثون ومثقفون

اللافت أن طروحات حل الدولة الواحدة، لم تعد مقتصرةً الآن على الحديث عن إنهاء الاستعمار، ومحاولة تحقيق الحل الممكن، للحالة القائمة في فلسطين. ففي صياغة جديدة لنموذج حل الدولة الواحدة، قدم أطراف في اليمين الإسرائيلي مثل كارولين غليك، أطروحة تقوم على الضم باعتباره "حلًا إسرائيليًا" من خلال ضم الضفة الغربية من طرف واحد وإنهاء السلطة الفلسطينية مع العمل على وجود أقلية عربية "صالحة" تقدم الولاء لإسرائيل. وتم الترويج لهذا الطرح كفرصةً للسلام في الشرق الأوسط، وحلًا للمخاطر الوجودية التي تهدد إسرائيل من ناحية أمنية. هذا "الحل" لاقى دعمًا سياسيًا إسرائيليًا في السنوات الأخيرة، خاصةً مع طرح اليمين الإسرائيلي فكرة ضم مناطق ج إلى إسرائيل، وهي الفكرة التي تحولت إلى برامج انتخابية للأحزاب اليمينية.