في خضم اندلاع معارك وسائل التواصل الاجتماعي غير منضبطة والخطيرة حول أية جريمة، لا يخفي الكثيرون جهلهم أو حتى عدم إكتراثهم بالحق في الحصول على محاكمة عادلة، مما يعكس تغييرًا كبيرًا في ديناميات المجتمع الرقمي ورغبة المعظم الجارفة بالانتقام بدلًا من الاهتمام بإحقاق العدالة، مما يزيد من انتشار ردود الأفعال العنيفة والدعوات للانتقام، ويضغط على نظم العدالة للانتقام بدلًا من تركها تعمل لضمان ننفيذ إجراءات صحيحة وتوفير محاكمة عادلة.
وسأعود لديناميات وسائل التواصل الاجتماعي لاحقًا، حيث إنها تمثل عرضًا فقط مما جلبه علينا الوعد الرقمي في عصر يتسم بالانتشار السريع لوسائل التواصل الاجتماعي وتفشي تأثير الرقمنة، عصر اتخذ فيه الحق في الوصول إلى العدالة والمحاكمة العادلة بعدًا جديدًا تمامًا في ظل الإمكانيات الهائلة التي وفرتها لنا التقنية وتوسع حدود إمكانية الوصول القانوني إلى ما هو أبعد من حدود قاعات المحاكم التقليدية، حيث لم تعد التقنيات الرقمية تشكيل كيفية تواصلنا وتفاعلنا فقط، ولكن أيضًا كيفية سعينا لتحقيق العدالة وإدارتها. فلقد منحتنا التكنولوجيا القانونية الكثير ويسرت الوصول للعدالة الناجزة من جهة، ولكن كما يقولون لا يوجد غداء مجاني ولكل شيء ثمن، وسنحاول في هذا المقالة إعادة قراءة مشهد ضمانات المحاكمة العادلة من ناحية تقنية في في عصر الرقمنة والإمكانات التحويلية التي يحملها لنظم العدالة.
يعد الحق في الحصول على محاكمة عادلة مبدأ أساسي في أي مجتمع عادل، وحجر الزاوية في أي نظام عدالة في العالم
في البداية، يعد الحق في الحصول على محاكمة عادلة مبدأ أساسي في أي مجتمع عادل، وحجر الزاوية في أي نظام عدالة في العالم، وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الانسان على هذا الحق في المادة رقم (10) حيث نص على أن "لكل إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة، نظرًا منصفًا وعلنيًا للفصل في حقوقه والتزاماته وفي أي تهمة جزائية توجه إليه".
كما أن العديد من البلدان تحمي هذا الحق دستوريًا. بحيث يتم ضمان أن يتمتع كل فرد، بغض النظر عن خلفيته، بجلسة استماع عادلة ومحايدة أمام محكمة مستقلة ومختصة، للتأكد من عدم وقوع أية تعديات من شأنها أن تؤثر على نزاهة المحاكمة، كالحرمان من وجود محامي للدفاع، أو الاعتقال التعسفي والتعذيب وغيره من أشكال سوء المعاملة. ويضمن للمتهم حق الدفاع والوصول إلى الأدلة وافتراض البراءة حتى تثبت إدانته.
وعلى الرغم من أهميته القصوى، ما زال الحق في محاكمة عادلة يواجه تحديات عديدة تشمل صعوبة الوصول للعدالة، والافتقار إلى التمثيل القانوني، وتراكم القضايا وإطالة أمد التقاضي، والاحتجاز السابق للمحاكمة، والإكراه أو التعذيب، والتحيز والتمييز. مما قد يعرض هذا الحق للضياع، ويترتب عليه عواقب وخيمة ينتج عنها ضياع الحقوق، وتآكل ثقة المجتمع في النظام القانوني والدولة ككل، بالإضافة لزيادة التهميش وعدم المساواة، وإدامة دورات الفقر والتمييز، وزيادة معدلات الجريمة، وتزايد انتهاكات حقوق الأنسان بشكل عام.
وللأسف، أحد عوارض التكنولوجيا أننا بتنا في السنوات الأخيرة نشهد تآكل لافتراض البراءة واحترام مبادئ العدالة وسيادة القانون، خصوصًا مع الحملات الشعبوية على وسائل التواصل الاجتماعي عند وقوع أية جريمة رأي عام التي أشرت لها في البداية، مع المطالبات الجارفة بإنزال أقسى العقوبات على الأفراد المتهمين دون منحهم الإجراءات القانونية الواجبة وحتى قبل استكمال التحقيقات. هذه الحملات الشعبوية تساهم في ممارسة ضغوط لا داعي لها على السلطة القضائية، وجهات إنفاذ القانون، والمهنيين القانونيين، حيث قد يواجه القضاة تأثيرات خارجية تؤثر على قدرتهم على اتخاذ قرارات محايدة بناءً على الأدلة والقانون. وقد يشعر المدعون العامون بأنهم مجبرون على ضمان الإدانة بأي ثمن، مما قد يؤدي إلى إدانات خاطئة أو تطبيق غير متكافئ للعدالة، والأسوأ أن المحامين قد يتخوفون ويحجمون عن تمثيل المتهمين. وغالبًا ما ينبع هذا التأثير من الاصطدام بين مبادئ العدالة وسيادة القانون والاستجابات العاطفية التي تثيرها الجرائم البشعة. وفي حين أنه من الطبيعي أن تطالب المجتمعات بالعدالة والمساءلة في مواجهة الأعمال الشنيعة، فإنه من الأهمية بمكان إيجاد توازن يدعم الحق الأساسي في ضمان محاكمة عادلة.
وقد أدت التقاطعات بين التكنولوجيا والنظم القانونية إلى ظهور العديد من الفرص والتحديات، لا سيما عندما يتعلق الأمر بحماية الحق في الحصول على محاكمة عادلة. فقد أدى ظهور النظم المتخصصة، والأدلة الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والإجراءات عبر الإنترنت إلى خلق تحولات جذرية في مشهد العدالة. ففي حين وفرت هذه الابتكارات الكفاءة والراحة، فإنها طرحت أيضًا مجموعة من الاعتبارات الأخلاقية والقانونية والعملية التي يجب التعامل معها بعناية. فعلى الرغم من أن عمليات الرقمنة واستخدام التكنولوجيا القانونية ساعدت في جعل العملية القانونية أكثر كفاءة ويسرت الوصول إليها في كثير من الحالات، وساهمت في تبسيط الإجراءات الإدارية وتقليل الأعمال الورقية، ومكنت من الوصول عن بعد إلى إجراءات المحكمة ووثائقها، مما يسر على الناس اللجوء للقانون. كما عززت الرقمنة من شفافية النظم القانونية، وسمحت بتحليل كميات كبيرة من البيانات القانونية مما حسن من تنفيذ العدالة، وقللت من مخاطر التلاعب بالسجلات وخسارتها، وخفضت التكاليف المادية، مما أدى تلقائيًا إلى تعزيز ثقة الجمهور بأنظمة العدالة. إلا أنه نتج عنها أيضًا مجموعة من الآثار السلبية التي تدفع إلى مواصلة البحث والتطوير لنستمر في الاستفادة من إيجابيات الرقمنة وتجنب سلبياتها.
وفي أيامنا هذه يكمن أحد الأخطار المحدقة بضمان حق الحصول على محاكمة عادلة في الفجوة الرقمية، حيث لا يتمتع الجميع بإمكانية الوصول إلى التكنولوجيا الرقمية أو الإنترنت على قدم المساواة، فعلى الرغم من وردية الصورة التي يركز عليها عمالقة التكنولوجيا والحكومات، فإن بعض من الدراسات والابحاث ما زالت تشير إلى أن نسب كبيرة من الافراد ما زالوا يفتقرون لوسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة، حيث تشير بعض الدراسات لأن 20% فقط من الأسر في البلدان الفقيرة لديهم إتصال بالإنترنت، وحتى في البلدان الغنية كالولايات المتحدة الأمريكية فإن 39% من الأميركيين الذين يعيشون في المناطق الريفية يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى خدمات الإنترنت الفعالة والمناسبة، مما قد يحول بين 34 مليون شخص وبين الحياة الرقمية وهذا مثال فقط. ناهيك عن الأمية الرقمية بين أوساط كثير من الناس حول العالم. هذه الفجوة الرقمية المهولة تعزز عدم المساواة في الوصول إلى المعلومات والخدمات والإجراءات القانونية، مما قد يقوض الحق في محاكمة عادلة، ويستدعي العمل بجدية على ردم وتقليص الفجوة الرقمية بأسرع وقت ممكن.
ما زال استخدام التكنولوجيا الرقمية يثير الكثير من المخاوف المتعلقة بالخصوصية، خاصة في سياق المراقبة الإلكترونية وجمع البيانات وتخزين المعلومات الشخصية
وما زال استخدام التكنولوجيا الرقمية يثير الكثير من المخاوف المتعلقة بالخصوصية، خاصة في سياق المراقبة الإلكترونية وجمع البيانات وتخزين المعلومات الشخصية. إذ إن الوصول غير المصرح به إلى البيانات القانونية الحساسة يمكن أن يضر بنزاهة المحاكمة، حيث يمكن أن يؤدي الوصول والكشف عن بعض المعلومات الخصوصية دون تصريح مثل الملف الجنائي السابق للمدعى عليه أو التاريخ الطبي أو المعلومات المالية إلى خلق مجموعة من التحيزات المسبقة ضد المتهم، كما يمكنها أن تؤثر على جهات إنفاذ القانون والإدعاء العام والقضاء، وقد تستغل المعلومات الشخصية لأغراض إكراه أو تخويف الشهود أو الضحايا أو حتى المتهمين. ولحماية الحق في محاكمة عادلة في عصر يتزايد فيه تبادل المعلومات الرقمية، من الضروري تعزيز قوانين خصوصية البيانات وتدابير الأمن السيبراني، بحيث يتضمن ذلك التشفير القوي، وضوابط الوصول الصارمة للمعلومات، والعقوبات القانونية الرادعة لانتهاكات البيانات غير المصرح بها. بالإضافة إلى ذلك، يجب على المحامين والقائمين على نظم العدالة أن يكونوا يقظين في حماية سرية المعلومات الشخصية وفي معالجة أي انتهاكات على الفور للتخفيف من تأثيرها على عدالة المحاكمات.
ويتقاطع مع مخاطر خصوصية البيانات ما تطرحه الرقمنة من مخاطر الأمن السيبراني والاختراقات الإلكترونية، فإذا لم تتم حماية المستندات أو الإجراءات القانونية بشكل كافٍ، فقد تكون عرضة للقرصنة أو التلاعب، مما قد يقوض عدالة المحاكمة بشكل كامل. ولا يقل عنها أهمية الأخطاء التقنية أو الأعطال في الأنظمة الرقمية التي يمكن ان تؤدي إلى تعطيل إجراءات المحكمة، أو تأخير المحاكمات، أو إفساد المستندات القانونية. مما يجبرنا على الاستمرار في مواكبة التطورات التقنية وتحديث الأنظمة ذات العلاقة وبناء قدرات المعنيين التقنية لضمان أعلى درجات الأمان والاستدامة التقنية.
كما يطرح عصر الرقمنة تحديات الأدلة الرقمية، حيث يمكن أن يمثل تقديم الأدلة الرقمية، مثل رسائل البريد الإلكتروني أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي أو المستندات الإلكترونية، تحديات في التحقق من صحة الأدلة وموثوقيتها، وزاد الطين بلة تطور تقنيات التزييف العميق (Deepfake)، التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لإنشاء محتوى صوتي أو فيديو يبدو واقعيًا ولكنه ملفق بالكامل، مما يعطيها القدرة على التأثير بشكل كبير على الحق في محاكمة عادلة بطرق مختلفة، طرق مباشرة مثل التلاعب بالأدلة وتزييفها بشكل شبه حقيقي ومقنع للغاية، وغير مباشرة حيث يمكن استخدامها للتشكيك في مصداقية الشهود وتشويه سمعتهم، والتلاعب بالرأي العام مما قد يؤدي إلى تغطية إعلامية متحيزة. وللتخفيف من تأثير تقنيات التزييف العميق على الحق في محاكمة عادلة، يمكن النظر في عدة تدابير تشمل الاستعانة بتحليل الخبراء التقنيين، وتشديد التشريعات التي تعالج موضوع التزييف العميق، والتوعية وبناء قدرات الإدعاء العام والقضاة والمحامين على اكتشاف تكنولوجيا التزييف العميق وآثارها لضمان قدرتهم على اتخاذ قرارات مستنيرة أثناء المحاكمات.
وكما بشر عصر الذكاء الاصطناعي بكثير من الفتوحات فإن خوارزمياته أثارت العديد من المخاوف حول ضمانات المحاكمة العادلة عند التفكير في تحيز الخوارزميات والبيانات، وشفافية الخوارزميات، وآليات الرقابة والحوكمة والمساءلة، فقد تكون عمليات صنع القرار الآلية والخوارزميات المستخدمة في الأنظمة القانونية متحيزة، مما يؤدي إلى نتائج تمييزية. ويمكن أن يؤثر ذلك بشكل غير متناسب على الفئات المهمشة أو الضعيفة.
في الختام، إن الحق في محاكمة عادلة ليس مجرد إجراء شكلي قانوني؛ إنه حجر الأساس للمجتمع العادل، الذي يضمن أن يُعامل كل فرد بكرامة واحترام، بغض النظر عن ظروفه او ظروفها. وفي هذا السياق، يقدم العصر الرقمي فرصًا رائعة وتحديات عميقة عندما يتعلق الأمر بحماية ضمانات المحاكمة العادلة. ففي حين يمكن للتكنولوجيا أن تعزز الكفاءة والفعالية وإمكانية الوصول للعدالة، فإنه يجب التعامل مع التقنيات الحديثة بعناية كبيرة للحفاظ على مبادئ العدالة والإنصاف وضمان حسن تنفيذ الإجراءات القانونية الواجبة، وعليه تواجه أنظمة العدالة في جميع أنحاء العالم مهمة حيوية تتمثل في التكيف مع هذا المشهد المتطور، حيث تتأثر موازين العدالة بشكل متزايد بالأدوات الرقمية المتاحة لنا، مما يجعل من تحقيق التوازن الصحيح بين الابتكار والعدالة المعضلة الحاسمة لأنظمتنا القانوني في العصر الرقمي.