"في آخر العمر، نبحث عن من يسعدنا لا من يعيدنا إلى سنوات الجمر"، كانت هذه كلمات امرأة تجاوزت السبعين من العمر، وهي التي ربت أولادها ورأتهم يكبرون أمامها وجعلت منهم مثالًا يحتذى به. تقول السيدة هذه الكلمات، وهي تمسح الدموع عن عينيها. التقيناها في مركز طبي بضواحي العاصمة الجزائرية، كانت وحيدة تجر رجليها نحو مكتب الطبيبة، فمرض السكري قد أنهك جسدها.
"في آخر العمر، نبحث عن من يسعدنا لا من يعيدنا إلى سنوات الجمر"، كانت هذه كلمات امرأة تجاوزت السبعين من العمر
تقول السيدة زبيدة لـ"ألترا صوت": "لقد أنجبت أحد عشر ولدًا وبنتًا ولكنني الآن صرت لا أرغب في رؤيتهم، ببساطة سئمت مشاكلهم اليومية ومللت من هواجسهم ومن مشاغل أبنائهم، أحبهم جميعًا لكنهم أرهقونا، أنا ووالدهم، بمشاكل لا تنتهي". "نعم، الكثير من الأبناء لا يراعون ضعف والديهم"، تضيف زبيدة، 73 سنة، وتوضح لـ"ألترا صوت": "إنهم لا ينتبهون لعدم قدرتي على التحمل أكثر".
اقرأ/ي أيضًا: عقوق الأبناء.. ما الجديد؟!
"كم هو صعب أن تستمع لآهاتهم، لقلقهم ولأفكارهم، لكلماتهم وتجاعيد وجوههم، إنهم صادقون لكنني في المقابل أحترق خوفًا وحبًا وقلقًا عليهم، أبنائي لا يزالون صغارًا بنظري"، تقول أم هاني، 78 سنة، من منطقة "زرالدة"، غرب العاصمة الجزائرية، لـ"ألترا صوت". وتضيف: "لقد تزوجوا واستقروا في بيوت خاصة إلا أنهم يتصرفون وكأنني لا أزال قادرة على تحملهم وتحمل شكاوي أبنائهم".
واليوم، صار شراء لوازم البيت تسلية أم هاني الوحيدة وتحول طريق الذهاب والعودة من السوق إلى رحلتها اليومية المفضلة. سألناها: "ما سبب هروبك اليومي من البيت؟"، فأجابت: "الدنيا لا تعطينا ما نريد لكن جيلنا أخطأ كثيرًا أيضًا، نحن الآن نبحث عن الهدوء، عن مكان يعيد إلينا شريط الذكريات الجميلة".
في أرذل العمر، يصير الإنسان غالبًا أكثر ضعفًا وأحاسيسه أكثر شفافية بحيث يصعب إخفاؤها، الفرح كما الدموع
من جهته، يقول عبد العالي زياني لـ"ألترا صوت" إنه "بات يلجأ إلى حديقة ساحة الشهداء بأعالي العاصمة الجزائرية، حيث يجد فيها أصدقاء له من نفس سنه، يتبادل معهم أطراف الحديث ويلعب معهم لعبة الطاولة كما يستمتع وهو يقرأ الجريدة ويناقش أصدقاءه في الأحداث التي تصدرت الصحافة اليومية، كما يتذكر معهم ذكريات السنوات الماضية"، يبتسم مؤكدًا "صارت الحديقة ملجئي اليومي، وفيها أرتاح بعيدًا عن صخب البيت".
"في أرذل العمر، يصير الإنسان غالبًا أكثر ضعفًا وأحاسيسه أكثر شفافية بحيث يصعب إخفاؤها، الفرح كما الدموع، ينزوي البعض في مكان بعيد لإخفاء ذلك أحيانًا"، هكذا تصرح المختصة في علم النفس نفيسة بوراوي لـ"ألترا صوت"، وتضيف: "هناك من يعجز عن التعبير أمام أبنائه، لهذا يلجأ الكثيرون إلى أصدقاء لهم أو جيران قدامى أو حتى أشخاص آخرين من نفس العمر لأن مكاشفة الأبناء بحرية عن معاناتهم هي من الصعوبة بمكان". "معظم كبار السن يتوقون إلى مكان يجدون فيه راحتهم، هربًا من المشاكل التي باتت تؤرقهم بشدة في هذه السن المتقدمة"، توضح ذات المتحدثة.
هل ضاقت الأماكن بأصحابها أم يلعب السن دورًا في تغير سلوك الآباء في آخر فترات الحياة؟ سؤال تجيب عنه الخبيرة بوراوي: "لا المكان صار يمكنه حمل هموم الكبار ولا السن يمكنه أن يعيد إليهم أحلام البدايات الأولى"، مؤكدة أنه "مع تقدم السن، يجد الكبار راحتهم في مكان هادئ لا توجد فيه ضوضاء، بعضهم يفضل البقاء في البيت العائلي الكبير، أين يحتفظون بكل تفاصيل ماضيهم، وفي الغالب لا يحبذون العيش في بيوت أبنائهم، إنهم يتشبثون بالماضي والذكريات التي تساهم في استمرار العيش، أما الأبناء فهم دائمًا يرونهم عبئًا لا يزال يثقل كاهلهم ويحاولون بأي طريقة إزاحة مشاكلهم من يومياتهم دون خدش مشاعرهم".
اقرأ/ي أيضًا: