25-يوليو-2017

استلاب الحق في المعرفة من مظاهر تضخم السياسي على حساب المجالات الأُخرى (تعبيرية/Getty)

يضيق علينا المجال السياسي بما رحبت الدنيا ووسعت، وينصبّ اهتمامنا على الشيء الذي يُشار إليه باعتباره الأكثر أهمية وجدّية: السياسة، بينما تتقلص تدريجيًا، وربما تنتفي اهتماماتنا بالأمور الأُخرى التي في المقابل بات يُشار إليها بـ"التفاهة"، وهو تعبير مثالي إذا ما أُخذ على محمل الجد، والأكثر مثالية بين أقرانه إذا ما لم يُؤخذ بجدية!

انهماكنا في المجال السياسي لا يرتبط بانشغالنا بقضايا العدالة والحقوق والحريات، وإنما هي خدعة قديمة للسيطرة على المجال العام

لا بأس بالسياسة على أي حال، فهي في اللغة من مصدر ساسَ يسوس، ولا يبدو أن تعريفها لدى العرب اقتصر على شؤون الحكم، وهي إن كانت في الاصطلاح بمعنى "فن تحقيق الممكن في إطار العدالة" كما عرفها البعض، فلا يبدو أيضًا أنّ ثمّة صلة قويّة بينها وبين ما ننهك به أنفسنا في العالم العربي. وعلى أي حال أيضًا، انهماكنا في المجال السياسي لا يرتبط كما يبدو بانشغالنا بقضايا العدالة والحقوق والحريات؛ إنّها خُدعة قديمة للسيطرة على المجال العام، وبشكل أو بآخر، ابتلعناها جميعًا.

اقرأ/أيضًا: التخلّف العربي.. هذا ليس حديث مُؤامرة

يقول ميلان كونديرا في آخر رواياته "حفلة التفاهة"، الصادرة عام 2014: "أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره للأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس للأمام، لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة، ألا نأخذه على محمل الجد". ويقول جلال الدين الرومي: "بالأمس كنت ذكيًا فأردت تغيير العالم، أمّا اليوم فأنا حكيم، لذلك أُريد تغيير نفسي"، ومع ما في مقولات كتلك من سخرية/حكمة يُنظر إليها ككلاشيه؛ إلا أنها –وللعجب- لا تنفك عن المعرفة التي تبحث في أصل الحقوق والحريات!

يرتبط الأمر بالخطاب والمجتمع المدني أو المجال العام، ويكمن الصراع الحقيقي للانعتاق بينهما: نحن أو السُلطة، والسلطة أو نحن. صراعنا البدائي مع الطبيعة والطفولي مع الأسرة، وصراعنا الحاضر مع أنفسنا والمجتمع، لنُعرّف حقوقنا، وحدود انعتاقنا من الأسر.

تضخّم السياسي

إذا ما اتفقنا على الإشارة إلى الخطاب باعتباره المعرفة "المتاحة"، فيمكن القول إذن إنّ الإذعان لهذا الخطاب يتمثّل في مواجهته من داخله، أو الدائرة المفرغة التي "نناضل" خلالها، والتي هي بشكل أو بآخر تحديدًا ما ترمي إليه السلطة في الأغلب، التي هي على رأس هذا الخطاب، وهي أركانه من خلال جملة نُخبتها.

استلاب الحق العام في تناول المعرفة وتشكيلها، في الإحاطة بها وممارسة الحقوق الإنسانية والاجتماعية، هي ظواهر لتضخّم السياسي على حساب المجالات الأخرى، وطريقة لتوسيع دائرة الحُكم من السياسي بالتعريف اللغوي أو حتّى الاصطلاحي، إلى كل شيء، باعتباره الشيء "الجاد الوحيد"، في حين أنّ الأمور الأُخرى الأكثر "تفاهة" التي يُفترض أنها تُشكّل في الأصل المجال العام والمجتمع المدني، أو القاعدة الأصلية للسياسي؛ يُدفع بها إلى الهامش، وتُشلّ الحركة فيها باستلاب المعرفة وحصرها.

استلاب الحق في تناول المعرفة وتشكيلها وفي ممارسة الحقوق الإنسانية والاجتماعية، من ظواهر تضخم السياسي على حساب المجالات الأخرى

لذا وبقراءة مختلفة لنص كونديرا، فإنّ التفاهة هي الجوهر "يجب أن نحبّها، وأن نتعلم حبّها"، لندفع بها إلى المركز من جديد، ولنخوض بها نضالنا الحقيقي لحقوقنا وحريتنا الأكثر جدية في تفاهتها: أن نفهم الضرورة دون أن ننساق لخطابٍ لا يُمثّلنا كفاية.

اقرأ/ي أيضًا: من يستطيع تغيير العالم؟ 

العلاقة جدلية بالضرورة ومتشابكة، لكن ما قد يُمكن الفصل والتحديد فيه هو إمّا الانجرار لخطاب السلطة والتفاعل من خلاله، أو التمسّك بالهامش و"النضال" به الذي هو محاولة للانعتاق بشكل أو بآخر.

"التفاهة" أكثر أهمية

في لقاء وحيد مع أحد الأساتذة المصريين في تخصص الإنسانيات بإحدى الجامعات الأمريكية، عاب على المحتوى الصحفي والكتابي العربي، إفراده المساحة الأكبر للسياسة. قال وقتها ما يفيد أنه من قبيل العدالة للنفس أن نهتمّ بالهموم الأكثر إنسانية، أن نهتم بالنفس والاجتماع، بالعلوم والثقافة بشكل ينفصل عن السياسي من جهة ويشتبك معه من الجهة الإيجابية، أي الفعل والمبادرة والدفع باهتماماتنا الإنسانية هذه إلى المركز.

وكأنّه أراد القول إنّ هذه هي مجالات المعرفة المُهمّشة في ظل هذا الخطاب العام الذي تتضخم فيه السياسة على حساب كل شيء، حتى على حساب مشاعرنا. هذه الأمور أصبحت "تفاهة" لأنّها على الهامش بحكم الأمر الواقع، وليس لأننا مهتمون أو مناضلون.

وبمرور الوقت كل شيء أصبح "سياسة"، حتى تلك الأمور المتعلقة بالإنسان بشكل شبه مُجرّد، بات للسياسة فيها نَفس. ولا شكّ أنّ القمع حين يُحكِم أمره، يتداخل في كافة مناحي الحياة. ولكن أليس من المُحتمل أن يكون تداخله هذا، وقبولنا به، قمعٌ في حد ذاته؟

تُهمّش مجالات المعرفة الأُخرى في ظل خطاب عام تتضخم فيه السياسة على حساب كل شيء، حتى على حساب مشاعرنا

هذه تحديدًا العلاقة المتداخلة جدًا، وهكذا يُصبح السياسي فقرة يومية في حياتنا، تشغل الجزء الأكبر منه، فتفقدنا الشغف بالتفاهة: النفس العلاقات والأسرة والحب والمزاح والسفر للتجربة، ووقت الفراغ في حد ذاته، وألا نأخذ الأمور على محمل الجدّ عدالةً لأنفسنا.

اقرأ/ي أيضًا: ويكبيديا العربية.. بؤس ثقافي 

بعض الشيوعيين يقول، إن المجتمع الشيوعي يعني المزيد من أوقات الفراغ التي تتيح تركيز الاهتمام على الإنساني. العدالة الاجتماعية، أو إن شئت قل العدالة الإنسانية تعني مزيدًا من السعة لتضمية الوقت في "التفاهة". وفي التراث العربي، كان هناك الكثير من الوقت للحديث والتأليف في فضل المزاح واللهو، وفنون الحب والجنس وأنواع العلاقات، وفي الموسيقى والأدب. كان هناك مجال عام مفتوح، في القلب منه كل ما هو إنساني، وعلى الهامش سياسة وحكم ينحصران في إدارة عامة، دون تضخّم يُقصي قسرًا تفاعل أفراد المجتمع مع ما يهتمون به حقًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ليس "وعيًا طبقيًا" وإنما روح ثورية

وحش "الكلام الفارغ".. أو لماذا صرت أخاف من الكتابة