12-يناير-2016

في مقالته الثورة المأزومة وتبلور الوعي الطبقي، يُحاجج الصديق عبدالرحمن ناصر، بأن تأزم الثورات العربية سببه عدم تبلور ما أسماه "الوعي الطبقي" لدى فئات الثورة. والواقع أنّ هذه المُحاججة من "ناصر" تستحق التفكير مليًا، إذا ما اعتبرنا أنّ للثورات العربية أبعادًا اجتماعيةً أو أنها ثورات أصلًا. وعودٌ آخر لإشكالية المفهوم والعلاقة بين الدال والمدلول، وبينهما وبين الظرف التاريخي.

يبدو إخلالا الحديث عن وعي طبقي في ظل انعدام تمايز طبقي يحدد علاقة فئات المجتمع بوسائل الإنتاج 

قد يبدو إخلالًا الحديثُ عن وعي طبقي، في ظل انعدام تمايز طبقي يُحدد علاقة فئات المُجتمع بوسائل الإنتاج؛ لسبب واضح، وهو أن المجتمعات التي قامت فيها ما تُسمى بثورات الربيع العربي، وما أُفضل تسميتها بالانتفاضات العربية، جميعها مُجتمعات تقتات على اقتصادٍ ريعي، على هذا النحو يبدو الحديث عن ثورة بمعنى الصراع بين متناقضات المُجتمع، حرق للمراحل وتغافل عن قانون التطور غير المُتكافئ، سواءً للرأسمالية أو لسيرورة التاريخ في المُجتمعات.

في المُقابل، ما يُمكن الحديث عنه بتمعن مع الانتفاضات العربية، هو لحظة التنوير التي تعني الانعتاق من الخطاب السائد المفروض من السلطة، بتعبير آخر: الوعي المقصود، هو الإدراك بأن الخطر المحدق حقًا على أي مطالب للتغيير السياسي بالضرورة، هو الخطاب السائد، والذي هو في حالتنا، خطابٌ مشوّه بمزيج من الأمنية والأبوية والشوفونية غير المبررة.

وعلى هذا قلنا ونقول، إنّ أول الأخطاء التي أدت لتأزم الانتفاضة المصرية على اعتبارها "ثورة ديمقراطية"، كونها كذلك من جهة، ومن أُخرى التنصل من بعض العُنف الذي صاحب الحراك الجماهيري ضد رمزية الخطاب في ذهنية المُحتجين، أي أقسام الشرطة.

***

نعم، الهبّات الجماهيرية عفوية وتبدو مُفاجئة، وهكذا كان الحال مع انتفاضة 25 يناير المصرية، التي تجاوزت بدرجةٍ كبيرة (في 28 يناير تحديدًا) الجهات المُنظمة لها عبر شبكات التواصل الاجتماعي! لكن ما لا ينبغي أن نتناساه في المقابل، هو أن الهبّة بقدر عفويتها وفجائيتها، بقدر ما هي محكومة بقانون التراكم الكمي والتغيّر النوعي. والتغيّر في حالتنا هذه على مُستوى البنى الفوقية، ولم يمسس البناء التحتي أبدًا. إن شعارات مثل "العدالة الاجتماعية" و"المساواة" لا تعني شيئًا ذا قيمة جذرية، بل تبدو مُحاولة خطابية شعبوية للتسكين بنزح فائض الثروة الريعية المُكتنزة في الأعلى، إلى أسفل، أو ما يُسمى بالحد الأدنى والحد الأقصى للأجور!

الانتفاضات العربية كانت تعبيرًا عن غضب دفين إزاء ممارسات السلطة، وليس ضد السلطة ككل في حد ذاتها ومن هنا يمكننا الحديث عن أزمة وعي حقيقية 

إذًا يُمكننا القول، إن الانتفاضات العربية كانت تعبيرًا عن غضب دفين ومكبوت إزاء ممارسات السلطة، وليس ضد السلطة ككل في حد ذاتها (لقد هتفنا «الجيش والشعب إيد واحدة»)، وما تُمثله خطابيًا فضلًا عن طبقيًا، ومن هُنا يمكننا الحديث عن أزمة وعي حقيقية على مُستوى ابتلاع خطاب السلطة، الأمر الذي ساهم فيه المثقفون الرسميون، الذين التزموا بالهامش المتاح لأقصى درجة ممكنة، فضلًا عن تشوّه التمثيل السياسي للجماهير أيديولوجيًا واجتماعيًا.

بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود حركات وتجمعات سياسية قدّمت نفسها باعتبارها تيّارًا جامعًا مُجاوزًا للتمايز السياسي-الأيديولوجي أو الاجتماعي، «العجائزية» منها و«الشبابية»، لم تُساهم فيما ادعته أو فيما ادُّعي لها، بقدر ما كانت تحمل في طيات ما تقدمه أو تعبر عنه، ركائز خطاب السلطة، التي بدورها قدّمت نفسها -منذ السادات قبل أن يتركز الأمر مع مُبارك- باعتبارها ممثلًا لكل أطياف وفئات المُجتمع، على اختلافاته وتبايناته وتناقضاته. إنّها صورة مُكررة لدكتاتورية كلاسيكية.

***

الوعي الجماهيري الذي أفضت إليه انتفاضة كالانتفاضة المصرية، دُفع بالكبت المُتراكم، وفجّره العُنف المُبالغ فيه من قبل الدولة في 28 يناير على وجه التحديد. هُنا تحوّل الاحتجاج من مئات مُسيّسين إلى مئات الآلاف من الغاضبين، الذين وجهوا غضبهم بصورة مركزة على آلة القمع التي مثلت التجلي الرمزي والعملي لشروط الخطاب السائد: الأمنية، الأبوية، والانغلاق. تفجّر الوعي وساد ذاتيًا، دون أن يتبلور سياسيًا، فضاعت فرص الانتفاضة في تغيير ديمقراطي حقيقي مرة والثانية، قبل أن ننتكس على أعقابنا بالكلية مع 30 يونيو.

إن هذا الوعي إذًا لم يَسُد طبقيًا لما سبق وذكرناه، وعليه فإن "تأزم الثورة"، بتعبير عبدالرحمن ناصر، يبدو أنه جزء أصيل في بنائها. لكن ما حدث من ناحية أُخرى، أن هذا الوعي ساد على «الروح الثقافية المهيمنة»، بتعبير جرامشي، ما أدى إلى تكوّن مجال عام أكثر انفتاحًا، وبدلًا من احتكار قوة المعرفة، أصبحت مُجتذبة بين فئات المجتمع وبين السلطة المُشتتة التي تحاول إعادة إنتاج ما لقيَ حتفه عدة مرات سابقًا، وها هي تفشل مرة بعد الأُخرى، فتداري فشلها بمزيد من القمع والعنف.

أمكنة الأنشطة الثقافية والمعرفية، العلاقات الأسرية والاجتماعية، اتقاد النفوس للإنتاج الفني والثقافي والفكري، للأدب والصحافة والموسيقى والسينما، التحرر من مراكز السلطة الأبوية في الأسرة والمجتمع؛ كلها تمظهرات للحظة الوعي التي فجرتها الانتفاضة، لتسود على الروح الثقافية المُهيمنة. هذه المساحة، ونقدي لمقال الصديق عبد الرحمن ناصر، هي أيضًا من تمظهرات ما خلفته الانتفاضة البائسة من روحٍ ثورية.

اقرأ/ي أيضًا: 

الثورة المأزومة وتبلور الوعي الطبقي

من ينظم انهيار السيسي؟