07-ديسمبر-2023
لافتات تدعو للمقاطعة في الكويت

لو لم تكن المقاطعة ذات جدوى حقيقية لما كنا قد سمعنا أصوات من يطعن بها (Getty)

مر ستون يومًا من المجازر والإبادة الجماعية المستمرة التي يرتكبها الاحتلال الصهيوأمريكي بحق أهلنا في غزة. ستون يومًا من الجحيم المتواصل على الأرض، ومن خذلان أهلنا في غزة خذلانًا يصل حد الخيانة.

ستون يومًا ولم يحرك العالم المتحيز ساكنًا لوقف المذابح بحق المدنيين الفلسطينين، حتى كادت الناس تميز من الغيظ، لا تستطيع فعل شيء حقيقي قادر على وقف العدوان فورًا، فاندفع كل شخص يحاول ما يستطيع من تظاهر، واعتصام، واحتجاج، ومقاومة إلكترونية، وتبرع، ومقاطعة. ولكن يبدو أن الأخيرة قد أقضت مضاجع البعض، فلم يستطيعوا لجم صياحهم المكبوت.

أصبحت المقاطعة في ظاهرها دعمًا مباشرًا لأهلنا في غزة، وفي باطنها نواة تحررنا من قيود تبعية آن لها أن تنكسر

في الأيام الأخيرة، بدأت بعض الأصوات تعلو مندّدةً بالمقاطعة وآثارها السلبية على الاقتصادات الوطنية. وبقدرة قادر، تحول "الكمبرادور" العربي إلى بروليتاريا رثة تهتم لأمر إخوانها في الطبقات الكادحة، وتخشى من فقدان الوظائف وزيادة نسب البطالة. حملاتٌ على وسائل التواصل الاجتماعي ومقالات ومقابلات تدعوا لانهاء المقاطعة خوفًا من فقدان بضعة آلاف من الوظائف في هذا البلد أو ذاك بسبب المقاطعة.

وقد تناسى جهابذة الاقتصاد الذين دعموا هذه الطروحات الساذجة أن هذه البلدان أصلًا يعاني فيها مئات الآلاف، بل الملايين، من البطالة منذ عقود، دون أن تبذل الأنظمة وأبواقها أي جهد حقيقي جاد وملموس لحل المشاكل الهيكلية في اقتصاداتها، مع الإشارة إلى أن بعض هذه الأرقام استندت لتحليلات شخصيات وازنة ومتزنة، ولكنها اجتزأت من السياق الأعم الذي طُرحت من خلاله.

وعلى التوازي، انتفضت أجهزة رسمية تحذّر من نفور رأس المال الأجنبي، ذاك الذي كانت تشير تقاريرها سابقًا إلى أنه في تقلّص وهجرة منذ سنوات، ولكن ما إن بدأت حملات المقاطعة الشعبية تُظهِر جديتها على الأرض، حتى انبرى بعض المسؤولين الرسميين يهدد بكل فجاجة بأن الحكومات لن تسمح بالمس بالأمن الاقتصادي، ويحذرون من النتائج الكارثية للمقاطعة وكأن الجرائم الاقتصادية التي ارتكبتها زمر غير منتخبة لعقود بحق اقتصادات هذه الدول من خلال سياساتهم الفاشلة وسوء إدارتهم وتربحهم وانعدام المساءلة والمحاسبة، تندرج تحت بند الاجتهاد والأخطاء البريئة غير المقصودة.

ولم تكتف بعض الجهات بذلك، ففجرت بعض الشخصيات العامة المحسوبة على السلطة في الخصومة في هذا البلد أو ذاك، وخرجت علينا بشكل فج تناكف المقاطعين في مشاهد صبيانية عبثية لم ينتج عنها سوى المزيد من النفور من موقف السلطة، وتمسك الجماهير بالمقاطعة.

لعقود طويلة، سيطر "الكمبرادور" من خلال العلاقة غير الشرعية بين السلطة ورأس المال، على كل نواحي الحياة الاقتصادية في بلداننا، وسارعت الطبقة البرجوازية الناتجة عن هذه العلاقة غير الشرعية إلى التحالف مع رأس المال الأجنبي والهياكل الاستعمارية الحديثة في الغرب تحقيقًا لمصالحها وللسيطرة على الأسواق المحلية واخضاعها وجعلها تابعة تمامًا لقوى الاستعمار، بحيث تصبح أسواقًا استهلاكية لمنتجاتها لا أكثر ولا أقل. فما كانت تفرضه تلك القوى الاستعمارية بالقوة زمن الاحتلال، باتت تفرضه اليوم من خلال شبكة من اتفاقيات الاذعان والمساعدات المشروطة ونشاطات "الكمبرادور". وقد واتسع أثر هذا الاستعمار الحديث ليتجاوز الجانب الاقتصادي ويشمل الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية.

وفي خضم هذه الفوضى الاقتصادية الخلاقة، جاءت تضحيات أهلنا في غزة ليس فقط لتحرير البشر والأرض في فلسطين، بل لتشعل شرارة تحررنا نحن من الاستعمار الاقتصادي، وتشعل ثورة في وجه "الكمبرادور" غربي التبعية، حتى باتت المقاطعة في ظاهرها دعمًا مباشرًا لأهلنا في غزة، وفي باطنها نواة تحررنا من قيود تبعية آن لها أن تنكسر. ومعظم الأصوات التي تطعن في المقاطعة وجدواها إما مغرر بها، وإما مأجورة في محاولة من "الكمبرادور" العربي لإنقاذ ثرواتهم الملطخة بدماء أهلنا في فلسطين، ولو لم تكن المقاطعة ذات جدوى حقيقية لما كنا قد سمعنا أصواتهم.

شخصيًا، يزداد فضولي لأرى كيف ستحارب السلطات المقاطعة في الأيام القادمة. وبعد سنوات من محاولات المقاطعة على المستوى الشخصي أدرك صعوبتها، ولكن كما كتبت سابقًا أنا لست في مسعى لمقاطعة الكوكب، فما نحن بحاجة إليه هو أن نبدأ بخطوة، نقاطع الأسوأ قبل السيئ، الممكن قبل الصعب، منتج فمنتج، شركة فشركة، ونزحف تدريجيًا في دعم الإنتاج المحلي وتحرير اقتصاداتنا

نقاطع من أجل أهلنا في غزة، ونقاطع من أجل تحرير أنفسنا يومًا ما. وحتى ذلك الحين، أتمنى أن يستمر زخم المقاطعة ويزداد. وأرجو من كل من يقرأ كلماتي ألا يتوقف عن الحديث عن فلسطين ودعم المرابطين من أهلها.