07-ديسمبر-2023
المقاطعة في الكويت

تنشط حملات المقاطعة في عدد من الدول العربية (Getty)

في آذار/مارس 1930 أطلق المهاتما غاندي حملة مقاطعة ومسيرة سميت "مسيرة الملح" أو "عصيان الملح" استمرت 24 يوما لتشكل عصيانا مدنيا شهدته مستعمرة الهند لمقاومة ضريبة الملح واحتجاجا سلميا على احتكار بريطانيا المطلق للملح بموجب قانون سنَته منذ عام 1882، يجرّم من يخالفه.

ضريبة الملح كانت تساهم بـ 8.2% من العائدات الإجمالية لضرائب الهند البريطانية.

حملة المقاطعة تلك وضعت أقدام الهند على عتبة الاستقلال. وكان لتعاليم العصيان التي وضعها غاندي تأثير كبير على النشطاء الأميركيين مارتن لوثر كينغ جونيور وجيمس بيفل وغيرهم، ودافعا لإطلاق "حركة الحقوق المدنية" لتحصيل الحقوق القانونية للأميركيين الأفارقة وغيرهم من الأقليات في ستينيات القرن الماضي. 

تخبرنا أمثلة تاريخية عديدة على مدى حدة وفعالية سلاح المقاطعة "المدني السلمي" الذي يصعب على أية سلطة التحكم به

أسوق هذه المقدمة من التاريخ لتؤشر على مدى حدة وفعالية سلاح المقاطعة "المدني السلمي" الذي يصعب على أية سلطة، أيّاً كانت، أن تقف بوجهه أو تمنعه لا بالقانون ولا حتى بالعنف.

فسلاح المقاطعة بيد الشعب بمجموع أفراده، وينبغي أن تنشط في الدعوة إليه مؤسسات مجتمع مدني، من أحزاب ونقابات مهنية وعمّالية وجمعيات حقوقية أو حتى جمعيات حماية المستهلك.

وأركز هنا على الأفراد، لأنه يصعب التحكم في مواقفهم وخياراتهم أو إجبارهم على اتباع نمط استهلاكي بعينه أو شراء ما لا يرغبون به، بينما يمكن التأثير من قبل السلطات ولاسيما في الدول السلطوية على مؤسسات المجتمع المدني، ترهيبا أو ترغيبا، وحرفها عن مبادئها أو قرارات تتخذها بشأن المقاطعة والدعوة إليها وتوسيع نطاقها، وذلك عبر استخدام أدوات القوة الناعمة أو الخشنة معها. 

بيدَ أن الأفراد (المواطنين/المستهلكين) يواجهون مشكلة تتعلق بالتنظيم والتوافق على خياراتهم. لذلك فهم يحتاجون إلى أطر تنظيمية مرشدة ترسم لهم خريطة طريق وتحدد الأهداف والوسائل والغايات والزمان وماذا يقاطعون، حتى لا تكون العملية خبط عشواء، ولكي تحقق غاياتها بأعلى قدر من الكفاءة والفاعلية.

ومع أن مؤسسات المجتمع المدني، وبخاصة تلك التي ليس سهلاً حرف بوصلتها، تمتلك من القدرات والإمكانات والوسائل والأدوات والخبرات والعلاقات، التي إن وُظِّفت جيداً فستُحدِث أثراً، إلا أن عدم توافر من يتصدى لهذه المهمة منها ينبغي ألّا يمنع أياً من الناشطين من تشكيل إطار يحضّ على استخدام سلاح المقاطعة وينظم مبادرات وحملات تُحدِث تأثيرا، ولاسيما على صعيد الوعي بأهمّية التحرّك الجمعيّ المدنيّ، ولو عبر نشاط يعدّ "سلبيًا" في طبيعته، أي أنّه لا يشكّل فعلًا، بل محض امتناع عن فعل. 

وهنا لا نغفِل تأثير وسائل الإعلام المختلفة في العالم العربي ودورها في حمل مثل هذه المبادرات، قُطرياً أو قومياً، وإنجاحها. وكذلك تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، مع التحسب لاحتمالات محاولات الاختراق "الذباب الإلكتروني" من شتى المنابع لإحباط مثل هذه الحملات وإفسادها وإجهاضها والتشكيك فيها وفي إمكانات نجاحها، وتفكيك الإجماع حولها. 

الدعوة للمقاطعة ليست جديدة، ولم تكن جديدة على المواطنين العرب، وإنما إنها أخذت زخما قوياً منذ العدوان وحرب الإبادة التي يمارسها جيش الكيان الصهيوني على قطاع غزّة مؤيَّدا ومدعوماً عسكريا واقتصاديا وإعلاميا ومحميّاً من أميركا وعواصم الغرب الاستعماري وبخاصة بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، لدرجة تعطيل مجلس الأمن الدولي وسائر المنظمات الأممية وشلّ قدرتها ومساعيها لوقف المذابح وحماية أرواح الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلة، وتهشيم القانون الدولي عن آخره، وكسر الأمل في ترميمه. 

لقد انتشرت حملات المقاطعة "الشعبية" بزخم متصاعد في مختلف الدول العربية، وحتى في تلك الدول التي لا يستطيع الناس فيها الجهر بالدعوة إلى المقاطعة. وقد وجهت هذه الحملات لى الشركات التي تؤيد الكيان الصهيوني وتدعمه جهاراً، بصيغة رد فعل رافض ومنكر لهذا الانحياز السافر للكيان، وأداة ضغط لجعل هذه الشركات تعدل عن دعمها المادي والمعنوي للاحتلال في حربه على الفلسطينيين، والتي راح ضحيتها حتى الآن زهاء 20 ألف شهيد وشهيدة، وحجم لا يوصف من الدمار. 

وقد رأينا كيف أنّ العديد من فروع سلاسل المطاعم والمقاهي الأمريكية قد خلت في الأسابيع الأخيرة من مرتاديها بصورة شبه مكتملة، وكيف أن أمهات وربات بيوت صرن يحرصن على تفقد منشأ أي سلعة يشترينها، وحتى الأطفال، باتوا يرغبون عن أي منتج ثبت لهم أن الشركة الصانعة تدعم الكيان الصهيوني.

كما انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي دعوات لمقاطعة منتجات داعمي الكيان، وصفحات ومجموعات تكشف الشركات المنحازة والداعمة له وتنشر أسماءها، أو تنشر أسماء السلع التي تنتجها وتعرض صوراً لها ليتسنى للمتابعين التعرف عليها وتجنب ابتياعها.

رافق ذلك، على صعيد قُطري، دعوات لدعم الصناعات الوطنية البديلة في كل بلد، وساهم الإعلام في الترويج لذلك وتشجيعه والحض على استبدال منتجات الشركات الأجنبية الداعمة للكيان بالمنتجات الوطنية.

هذه المقاطعة لم تقصُر على الشركات الأميركية فقط، وإنما تمددت لتشمل شركات أوروبية وأخرى عابرة للجنسيات أعلنت انحيازها لآلة العدوان الصهيوني وحكومته. وقد رصد خبراء اقتصاديون تأثيرات إيجابية لهذه المقاطعة على مختلف المستويات القطرية والإقليمية والعالمية، ومن ذلك مثلًا خسارة سلسلة مقاهي "ستاربكس" 11 مليار دولار من قيمتها السوقية، وارتباط ذلك بحملات المقاطعة الواسعة ضدّها في دول عربية وإسلامية عديدة. 

على المقلب الآخر، انبرت جهات للتنديد بالمقاطعة والتحذير منها وسوق مؤشرات وأرقام مضللة للادعاء بأن لها تأثيرًا سلبيًا على الاقتصادات الوطنية، وكذلك التشكيك بنجاح أهدافها، في مساعٍ لإجهاض هذه الدعوات والحملات ووأدها ومنع توسعها وانتشارها على نطاق أوسع، وهي حملات تعبّر في مجملها عن رواسب من القلق لدى العديد من الأنظمة من أي حراك اجتماعي منظّم، ولو تجسّد ذلك في مجرّد تغيير مجموع أفراده لنمطٍ استهلاكي ما. 

هنا ينبغي الإشارة إلى مسألة غاية في الأهمية، وهي أن المقاطعة ليست فقط سلاح الشعوب والمجتمعات والأفراد، وإنما تمارسها الدول ضمن مفهوم آخر هو "الحظر" وتحديدا الحظر الاقتصادي، وهو مفهوم أوسع من المقاطعة وأشدّ خطرًا منه، إذ يشمل منع الاستيراد من دولة أو دول أو التصدير إليها، وكذلك اتخاذ مواقف سلبية حيال من يخترق هذا الحظر قد يصل حد "المعاقبة" بفرض عقوبات على من لا يلتزم بهذا الحظر.

وربما يتوسع المفهوم ليصبح "حصارا"  شاملا لمختلف نواحي الحياة وعلى مختلف الأصعدة والمستويات، مدعوما بالتلويح باستخدام أدوات سياسية واقتصادية وعسكرية ضد من يخرق هذا الحصار. وهذا كله مرتبط بموازين القوة وإمكانات وحجم الدولة التي تفرض الحظر أو الحصار.

ولعل أكثر دولة مارست وتمارس الحظر والحصار بمختلف صورهما في التاريخ الحديث هي الولايات المتحدة الأميركية، متبوعة في معظم الأحيان بتأييد ومشاركة من الغرب الاستعماري (أوروبا الغربية وكندا). لتحقيق مصالحها الاستعمارية وحمايتها ولخنق اقتصادات منافسة أو رافضة للتبعية لها، وأحيانا لحماية ربيبتها "إسرائيل". والأمثلة لا تُحصى على ذلك. 

فإذا كانت أميركا ومنظومة الاستعمار الغربي تستخدم هذا السلاح، وتسخّر أحيانا المنظمات الدولية لخدمة أهدافها وتحقيق غاياتها، التي هي بالضرورة لا تراعي مصالح أمتنا العربية أو تضرها؛ فأحرى بنا نحن الشعوب العربية أن نستخدمه لخدمة مصالحنا وحماية أوطاننا والدفاع عن قضايانا، وليس فقط قضيتنا الأولى وهي القضية الفلسطينية.

علينا أن نسعى، أفرادا وشعوبا ومؤسسات مجتمعات مدني، لإيجاد إطار أو أٌطُر، قُطرية وقومية، ترفع لواء مقاطعة أميركا بصورة مستدامة حتى ترتدع وتتوقف عن معاداتنا. وإمكانية تحقيق ذلك متوافرة، ولدينا نموذج ناجح في حركة مقاطعة إسرائيل (بي دي أس) وهي حركة فلسطينية ذات امتداد عالمي، التي حققت إنجازات تُسجّل "في بداية عزل النظام الإسرائيلي أكاديمياً وثقافياً وسياسياً، وإلى درجة ما اقتصادياً كذلك"، ما جعل حكومات الغرب تحاربها وتضيّق عليها وتسعى لتجريمها قانونيا.

بعيدا عن الحكومات ومصالحها وارتباطاتها ومحدداتها، الغضب الشعبي العربي، والإسلامي والعالمي حيال جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الصهيوني مؤَيَّدا ومحمياً ومدعوما من أميركا ومنظومة الاستعمار الغربي هو غضب عارم يجب ألّا نضيّعه سدى. وعلينا أن نتفاعل بما يوازي هذا الغضب وبصورة مستدامة ومنظمة وفاعلة، وبتقديري، ليس أفضل حاليًا من سلاح المقاطعة المتاح لإعادة إنتاج هذا الغضب بما يصب في تحقيق أهدافنا، عرباً ومسلمين وشعوبا حرة في مختلف أصقاع الأرض.. فهل نحن فاعلون؟