29-يناير-2016

مصريون يتظاهرون في تركيا رفضًا للانقلاب العسكري في مصر (Getty)

"مائة ألف جنيه أنفقتها حتى الآن منذ خروجي من مصر، والوضع غير مستقر من حيث الإقامة والمعيشة والإجراءات الرسمية للعيش في البلد المضيفة"، هكذا يتحدث "م" عن تجربته بعد الخروج من مصر عقب الإطاحة بمحمد مرسي من رئاسة الجمهورية، لتلافي الملاحقة الأمنية.

يقع المصريون المعارضون في الخارج بين مطرقة الخوف من عدم دوام استقرار الدول المستضيفة، وسندان ملاحقة الأجهزة المصرية لهم أينما ذهبوا

محدودية في الخيارات يواجهها المصري عندما يخرج من بلده تجنبًا للملاحقة الأمنية كما يحكي "م": "السودان تكون الوجهة الأولى للبعض، بالإضافة إلى ماليزيا وقطر وتركيا. الإقامة بالسودان عديمة القيمة، إذ إن الحياة هناك مكلفة والجو غير محتمل بالنسبة لكثيرين، ولا يتمكن أحد من استخراج تأشيرة سفر لأي دولة أخرى من هناك. أما ماليزيا فحاجز اللغة يقلل فرص العمل فيها، وتكلفة استكمال الدراسة عالية جدًا، وبالتالي فالاختيار الأفضل قطر يليه تركيا.

شبه استقرار

استقرار حياة المصريين المعارضين في الخارج متعلق بأشياء مختلفة، فهم يقعون بين مطرقة الخوف من عدم دوام استقرار الدول المستضيفة، وسندان ملاحقة الأجهزة المصرية لهم أينما ذهبوا.

قبل ستة أشهر لم يتمكن حزب العدالة والتنمية التركي من إحراز الأغلبية البرلمانية التي تمكنه من تشكيل حكومة، وتقرر إعادة الانتخابات من جديد، وهو ما جعل القلق يطارد الهاربين من النظام الحالي، تحسبًا لفوز حزب آخر، مما قد يضيق عليهم ومعهم اللاجئون السوريون.

ليس هذا التهديد الوحيد حسب "ز" الذي يقول "الوعود بالعمل في تركيا غالبا ما تكون غير حقيقية، وبالتالي يضطر الشخص أن يبيت بالشارع بعض الأيام أو يعيش على إعانات قد تأتي وقد لا تأتي. لهذا يحاول كثير منا أن تكون إقامته بموجب عقد عمل، وليست إقامة استثنائية حتى لا يضطر للمغادرة في أي وقت. لكن هذا أيضًا صعب، نظرًا لأن المصريين فشلوا فشلًا ذريعًا، مقارنة بالسوريين، في أن يقيمو تكتلًا وشبكة ربط، يقدرون من خلالها تكوين مجتمع خاص بهم، ومظلة تأمين. وبالتالي لا يساعد أحد الآخر في إيجاد فرص عمل أو حل مشاكل الإقامة. حتى الوعود التي قيلت للطلبة بأنهم سيتمكنون من إكمال الدراسة أيضًا كانت غير حقيقية، وبالنهاية إما أن ينفق الطالب على نفسه أو يتجاهل الدراسة ويعمل".

السفارات مقرات أمنية.. وجواز السفر رهينة

يعيش هؤلاء الخارجون قسرًا من بلدهم حياة غير مستقرة مقابل عدم قضائها في السجن لو كانوا في مصر، إلا أن بقاءهم خارج مصر لا يعني بالضرورة توقف ملاحقتهم أو بقاءهم بعيدًا عن أعين أجهزة الدولة.

يعلق الباحث عبدالله هنداوي، يقيم في واشنطن، بأن الشخص طالما كان خارج مصر فإنه لن يصيبه ضرر، إلا لو كانت الدولة التي يقيم فيها تقوم بتسليم الأشخاص لمصر، وهذا التسليم غير حاصل في معظم الدول الغربية.

لكن هل يتوقف الأمر عند هذا الحد؟ وهل يمكن أن تضيق السفارة علي رعاياها بسبب آرائهم السياسية؟ يجيب هنداوي بأن هذا غير قانوني لكنه يحدث للأسف لتضطرهم للعودة إلى مصر، وهناك يتم القبض عليهم. أما إذا ظلوا في الخارج فإنهم معرضون للمتابعة وملاحقة بعض العيون مع المغتربين الذين يتعاونون مع السفارة مقابل مبالغ مالية.

"ع" شاب مقيم في واشنطن، يحكي أنه كان يتردد على مكتبة الكونغرس لأغراض بحثية، وذات مرة اتصل به صديقه ليخبره أنه بانتظاره لشرب القهوة، وبعد توجهه إلى هناك فوجئ بضابط في السفارة المصرية بصحبة صديقه، حيث بدأ بسؤاله عن رأيه في الوضع في مصر وأمريكا، ولماذا يذهب إلى مكتبة الكونغرس، وما هي الأبحاث التي يقوم بها.

أنس -شاب عشريني- يحكي عن تأخر إصدار جواز سفره الجديد بعد ضياع الأول، قائلًا "كنت أقدم أوراق الجامعة ولم تقبل بسبب ضياع الجواز ولا أستطيع تجديد الإقامة. مر شهران على طلبي إصدار جواز، رغم أنه لا يستغرق أكثر من أسبوع، وعندما سألتهم قالو لي طالما لم نتصل بك فليس هناك جديد في الأمر، أقصى ما يمكن عمله لك هو إصدار وثيقة سفر تعود بها إلى مصر، طبعًا لو وصلت إلى أرض المطار لن أرى الأرض مرة أخرى. هذه المشكلة تواجه أي شخص يجدد جواز سفره في تركيا أو قطر، إلا لو كان غير مسيس.

الأمر نفسه تكرر مع آخرين، أبرزهم السياسي الشهير أيمن نور، الذي رفضت السفارة المصرية ببيروت ومن بعدها وزارة الخارجية تجديد جواز سفره بعد انتهاء مدته، ورغم حصوله على حكم قضائي بإلزام الوزارة بالتجديد، لم ينفذ الحكم وطعنت ضده عبر هيئة مفوضي الدولة.

تبرر مصادر من وزارة الخارجية هذا التصرف بأنها تستطلع رأي "جهات معينة" قبل تجديد الجواز بالنسبة للمصريين في الخارج، فإذا كان مدانًا في قضايا تمس أمن البلد يتم منحه وثيقة سفر للعودة إلى مصر، وتجديد جوازه في القاهرة وحل مشكلاته مع أجهزة الدولة.

قبل أسابيع، قُبض على الصحافي والباحث إسماعيل الإسكندراني في مطار الغردقة على خلفية قضية مقامه ضده قبل ستة أشهر، وقتها علقت زوجته وأصدقاؤه قائلين إن السفارة المصرية في برلين، آخر محطات إسماعيل قبل العودة إلى مصر، قد أعدت مذكرة تطالب فيها بتوقيفه لدى دخوله مصر، حيث كانت السفارة تتابع أنشطته وأوراقه البحثية التي نشرها في مؤتمرات علمية في إطار تخصصه البحثي. وهو ما يشير إلى أن أمن وحرية المصريين الذين يتبنون أراءً يراها النظام معارضة ليست في مأمن تام رغم أنهم في دول أخري.

يضيف "م": هذا الوضع دفع البعض للهروب إلى أوروبا أو الحصول على لجوء سياسي، لكنهم قلة، لأن المنافسة والمزاحمة شديدة من السوريين. ولم ينجح في هذه الخطوة سوى اثنين حسب معرفتي، أحدهما حصل على لجوء في كندا والآخر في السويد. والبعض الآخر يتجه للحرب مع داعش، وآخرين يتزوجون من أجنبيات ويستقرون كأعضاء أساسيين في مجتمعهم.

استنساخ وجدي غنيم

عند الحديث عن المعارضين في الخارج لا يمكن إغفال الداعية الشهير وجدي غنيم، الذي يعيش معاناة طويلة منذ سنوات، إذ تم منعه من دخول مصر في 2001. كان الرجل دائم الانتقاد للنظام، وكانت العلاقة بين الإخوان المسلمين والنظام وقتها تتسم بشيء من الهدوء، وكان اعتقال وجدي غنيم ليفجر الوضع، لكونه ذا شعبية ضخمة في الجماعة والأوساط المتدينة ذلك الوقت.

 هل يلاقي المعارضون في الخارج والعاملون في منصات إعلامية مناهضة للنظام مصيرًا مشابهًا لمصير وجدي غنيم؟

كان غنيم ممنوعًا من السفر، وفجأة سمح له بالسفر، فسافر إلى أمريكا لحضور مؤتمر، وعندما عاد إلى مطار القاهرة لم يسمح له بالدخول، فعاد من حيث أتى. ومنذ ذلك الحين وهو يجوب العالم بلدًا تلو الآخر، مطاردًا ومطرودًا وبعيدًا عن أسرته.

"سيبتلكم البلد ومشيت عايزين إيه، رايحين ورايا ليه، اتسجنت في مصر 8 مرات، ورجعوني من المطار 8 مرات، واتسجنت 4 مرات في دول مختلفة، وطاردوني من بلد إلى بلد، وأنا عارف إنهم مش هيسكتو غير لما يقتلوني، وأنا حاطط روحي علي كفي، لكن والله لن أسامحهم دنيا ولا آخره"، هكذا قال وجدي غنيم لبرنامج "بلا تأشيرة" المذاع على قناة الحوار.

اليمن، والبحرين وماليزيا وجنوب أفريقيا والسودان، كلها بلاد طرد منها الداعية وجدي غنيم بسبب تصريحاته اللاذعة. وفي جنوب أفريقيا تعرض للسرقة ومحاولة قتل. حتى بعد الثورة لم يتمكن من العودة إلى مصر، لكونه مطلوبًا على ذمة قضية التنظيم الدولي للإخوان التي حكم القضاء ضده فيها. ورغم أن المجلس العسكري أصدر عفوًا للمتهمين في القضية، لكنه لم يعف عن غنيم، حتى عفى عنه الرئيس المعزول محمد مرسي بعد توليه الرئاسة. ويبدو أن معرفته بترصد الأجهزة الأمنية له جعلته يتأخر في العودة إلى مصر حتى انقلب الوضع في 30 حزيران/يونيو رأسًا على عقب.

كان وجدي غنيم حادًا في انتقاد النظام طول الوقت، إلا أن التجربة القاسية التي مازال يمر بها حتى الآن جعلته أكثر غلظة، وأقل تقبلًا لآراء مخالفيه، وأكثر عنفًا في التعبير عن آرائه، حتى أنه خسر شرائح كبيرة من جمهوره السابق.

على غرار نموذج غنيم، هناك نماذج أخرى آخذة في التشكل من أتباع جماعة الإخوان الذين خرجوا من مصر بعد الإطاحة بمحمد مرسي.

وهنا يطرح السؤال نفسه، هل سيلاقي المعارضون في الخارج والعاملون في منصات إعلامية مناهضة للنظام مصيرًا مشابهًا لمصير وجدي غنيم؟ وهل سيتمكنون من العودة إلى مصر في حالة حدوث تغيير في شكل النظام؟ خاصة في حالة حدوث تغيير شكلي في النظام مع بقاء شكل المؤسسات كما هو. أم سنسمع عن قضايا جماعية من نوعية "العائدون من تركيا" و"العائدون من قطر"؟ ومن ناحية أخرى هل سيكون لدى المعارضين رغبة في العودة أصلًا فيما بعد، أم سيصيبهم الزهد يستمرون في أماكنهم، وترتيب حياتهم في البلد التي يقيمون فيها؟

اقرأ/ي أيضًا: 

حكايات من المنفى..الشباب المصري في تركيا

مصر..السخرية تنهي هدوء "يناير"